التاريخ الإسلامي
دون تشويه أو تزوير
التاريخ الإسلامي يمتد منذ بداية الدعوة الإسلامية بعد نزول الوحي على رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم تأسيس الدولة الإسلامية بالمدينة المنورة وحكم الخلفاء الراشدين، مرورًا بالدولة الأموية فالدولة العباسية بما تضمنته من إمارات ودول مثل السلاجقة والغزنوية في وسط آسيا والعراق وفي المغرب الأدارسة والمرابطين ثم الموحدين وأخيرًا في مصر الفاطميين والأيوبيين والمماليك ثم سيطرة الدولة العثمانية التي تعتبر آخر خلافة إسلامية على امتداد رقعة جغرافية واسعة، وهذه البوابة تعنى بتوثيق التاريخ من مصادره الصحيحة، بمنهجية علمية، وعرضه في صورة معاصرة دون تشويه أو تزوير، وتحليل أحداثه وربطها بالواقع، واستخراج السنن التي تسهم في بناء المستقبل.
ملخص المقال
كيف وزع عمر رضي الله عنه مال العطاء؟
المقصود بديوان العطاء هو المال الذي يعطيه عمر بن الخطاب رضي الله عنه لكل مسلم، وذلك بحكم أنه خليفة المسلمين، وتوزيع المال هذا يكون كل عام ويكون ذلك بناءً على احصائيات بعدد السكان، وهذ ما نوضحه:
نشأة إدارة المعاشات: (ديوان العطاء) في مصر تابعة لوزارة التضامن الاجتماعي
كانت البداية من موقف أبي هريرة عندما قدم بمال كثير من البحرين، وقرَّر عمر رضي الله عنه من يومها أن يُعطي كلَّ مسلمٍ عطاءً ثابتًا من الدولة، يكون له كالمعاش الذي يضمن له رغد العيش وأمانه، وكان لعمر رضي الله عنه طريقة في التقسيم لا تعتمد على الأحساب، أو الشرف، أو المكانة القَبَلِيَّة؛ إنَّما تعتمد على السَّبق إلى الإسلام، وعلى الإسهام في قيام الدولة وقوَّتها، وكذلك على القرب من رسول الله صلى الله عليه وسلم، سواءٌ كان هذا القرب قُرْبًا من ناحية الدم كعمِّه وأولاد عمِّه وأحفاده، أم من ناحية الزَّواج، وهنَّ أمَّهات المؤمنين، بل كان ينظر إلى قرب الزَّوجة من قلب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولذا زاد عائشة رضي الله عنها عن غيرها من نساء النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم.
وتختلف الروايات في تحديد قدر العطاء لكلِّ طائفةٍ من الطوائف التي قسَّمها عمر رضي الله عنه، ويمكن بالنظر إلى الروايات جميعًا الوصول إلى تصوُّرٍ دقيقٍ عن مقدار هذا العطاء، ولكنَّنا في هذا المختصر سنكتفي ببعضها.
عَنْ نَاشِرَةَ بْنِ سُمَيٍّ الْيَزَنِيِّ رضي الله عنه، قَالَ: سَمِعْتُ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رضي الله عنه، يَقُولُ فِي يَوْمِ الْجَابِيَةِ، وَهُوَ يَخْطُبُ النَّاسَ: «إِنَّ اللهَ عَزَّ وَجَلَّ جَعَلَنِي خَازِنًا لِهَذَا الْمَالِ، وَقَاسِمَهُ لَهُ، ثُمَّ قَالَ: بَلِ اللهُ يَقْسِمُهُ، وَأَنَا بَادِئٌ بِأَهْلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، ثُمَّ أَشْرَفِهِمْ، فَفَرَضَ لِأَزْوَاجِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم عَشْرَةَ آلَافٍ إِلَّا جُوَيْرِيَةَ، وَصَفِيَّةَ، ومَيْمُونَةَ، رضي الله عنهنَّ. فَقَالَتْ عَائِشَةُ رضي الله عنها: إِنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَعْدِلُ بَيْنَنَا. فَعَدَلَ بَيْنَهُنَّ عُمَرُ رضي الله عنه، ثُمَّ قَالَ: إِنِّي بَادِئٌ بِأَصْحَابِي الْمُهَاجِرِينَ الْأَوَّلِينَ، فَإِنَّا أُخْرِجْنَا مِنْ دِيَارِنَا ظُلْمًا، وَعُدْوَانًا، ثُمَّ أَشْرَفِهِمْ فَفَرَضَ لِأَصْحَابِ بَدْرٍ مِنْهُمْ خَمْسَةَ آلَافٍ، وَلِمَنْ كَانَ شَهِدَ بَدْرًا مِنَ الْأَنْصَارِ أَرْبَعَةَ آلَافٍ، وَلِمَنْ شَهِدَ أُحُدًا ثَلَاثَةَ آلَافٍ، قَالَ: وَمَنْ أَسْرَعَ فِي الْهِجْرَةِ أَسْرَعَ بِهِ الْعَطَاءُ، وَمَنْ أَبْطَأَ فِي الْهِجْرَةِ أَبْطَأَ بِهِ الْعَطَاءُ، فَلَا يَلُومَنَّ رَجُلٌ إِلَّا مُنَاخَ رَاحِلَتِهِ..»[1].
أمَّا تفسير اتِّجاه عمر رضي الله عنه أوَّلًا إلى إنقاص جويريَّة وصفيَّة رضي الله عنهما فقد جاء تفسيره في رواياتٍ أخرى، منها ما جاء عَنْ مُصْعَبِ بْنِ سَعْدٍ قَالَ: «فَرَضَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رضي الله عنه لِأُمَّهَاتِ المُؤْمِنِينَ عَشَرَةَ آلَافٍ عَشَرَةَ آلَافٍ، فَزَادَ عَائِشَةَ رضي الله عنها أَلْفَيْنِ، وَقَالَ: إِنَّهَا حَبِيبَةُ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، إِلَّا جُوَيْرِيَةَ بِنْتَ الْحَارِثِ، وَصَفِيَّةَ بِنْتَ حُيَيٍّ، رضي الله عنهما، فَإِنَّهُ فَرَضَ لَهُمَا سِتَّةَ أَلْفٍ». قَالَ أَسْبَاطٌ: قَالَ أَبُو بَكْرٍ الْهُذَلِيُّ: فَلَقِيتُ مُحَمَّدَ بْنَ الْمُنْكَدِرِ، فَقُلْتُ: إِنَّهُمْ يَدَّعُونَ أَنَّهُ إِنَّمَا نَقَصَهُمَا مِنْ أَجْلِ أَنَّهُمَا مُلِكَتَا! قَالَ: فَأَنْكَرَ ذَلِكَ أَشَدَّ الْإِنْكَارِ، ثُمَّ قَالَ: إِنَّمَا نَقَصَهُمَا مِنْ أَجْلِ أَنَّهُمَا لَمْ تُهَاجِرَا[2].
ووردت تفصيلاتٌ جميلةٌ في رواية أبي يوسف في كتاب الخراج، وضَّح فيها الرَّاوي أنَّ عمر رضي الله عنه رفع نساءَ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم كلَّهنَّ إلى اثني عشر ألف درهمٍ سنويًّا، كما كان دقيقًا في تقدير عطاء كلِّ إنسانٍ بشكلٍ لافت! فعن مَوْلَى عَمْرَةَ وَغَيْرِهُ قَالَ: لَمَّا جَاءَت عمر بْنَ الْخَطَّابِ رضي الله عنه الْفُتُوحُ وَجَاءَتِ الأَمْوَالُ قَالَ: إِنَّ أَبَا بَكْرٍ رضي الله عنه رَأَى فِي هَذَا الْمَالِ رَأْيًا وَلِي فِيهِ رَأْيٌ آخَرُ، لَا أَجْعَلُ مَنْ قَاتَلَ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم كَمَنْ قَاتَلَ مَعَهُ؛ فَفَرَضَ للمهاجرين وَالأَنْصَارِ مِمَّنْ شَهِدَ بَدْرًا خَمْسَةَ آلافٍ خَمْسَةَ آلافٍ، وَفَرَضَ لِمَنْ كَانَ إِسْلامُهُ كَإِسْلامِ أَهْلِ بَدْرٍ وَلَمْ يَشْهَدْ بَدْرًا أَرْبَعَةَ آلافٍ أَرْبَعَةَ آلافٍ، وَفَرَضَ لأَزْوَاجِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم اثْنَيْ عشر ألفا اثْنَي عشر ألفا إِلَّا صَفِيَّةَ وَجُوَيْرِيَةَ رضي الله عنهما؛ فَإِنَّهُ فَرَضَ لَهما سِتَّةَ آلافٍ سِتَةَ آلافٍ؛ فَأَبَيَا أَنْ يَقْبَلَا؛ فَقَالَ لَهُمَا: إِنَّمَا فَرَضْتُ لَهُنَّ لِلْهِجْرَةِ. فَقَالَتَا: لَا، إِنَّمَا فَرَضْتَ لَهُنَّ لِمَكَانِهِنَّ مِنْ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم وَكَانَ لَنَا مِثْلُهُ؛ فَعَرَفَ ذَلِكَ عُمَرُ رضي الله عنه، فَفَرَضَ لَهُمَا اثْنَيْ عَشَرَ أَلْفًا.
وَفَرَضَ لِلْعَبَّاسِ رضي الله عنه عَمِّ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم اثْنَيْ عَشَرَ أَلْفًا، وَفَرَضَ لأسامة بن زيد رضي الله عنهما أَرْبَعَةَ آلافٍ، وَفَرَضَ لِعَبْدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما -ابْنِهِ- ثَلاثَةَ آلافٍ؛ فَقَالَ: يَا أَبَتِ، لِمَ زِدْتَهُ عَلَيَّ أَلْفًا[3]؟ مَا كَانَ لأَبِيهِ مِنَ الْفَضْلِ مَا لَمْ يَكُنْ لأَبِي، وَمَا كَانَ لَهُ مَا لَمْ يَكُنْ لِي، فَقَالَ: إِنَّ أَبَا أُسَامَةَ كَانَ أَحَبَّ إِلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم مِنْ أَبِيكَ، وَكَانَ أُسَامَةُ رضي الله عنه أَحَبَّ إِلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم مِنْكَ، وَفَرَضَ لِلْحَسَنِ وَالْحُسَيْنِ رضي الله عنهما خَمْسَةَ آلافٍ خَمْسَةَ آلافٍ، أَلْحَقَهُمَا بِأَبِيهِمَا لِمَكَانِهِمَا مِنْ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم.
وَفَرَضَ لأَبْنَاءِ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنْصَارِ أَلْفَيْنِ أَلْفَيْنِ؛ فَمَرَّ عُمَرُ بْنُ أَبِي سَلَمَةَ رضي الله عنهما فَقَالَ: زِيدُوهُ أَلْفًا، فَقَالَ لَهُ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ بْنِ جَحْشٍ رضي الله عنهما: مَا كَانَ لأَبِيهِ مَا لَمْ يَكُنْ لآبَائِنَا، وَمَا كَانَ لَهُ مَا لَمْ يَكُنْ لَنَا! فَقَالَ: إِنِّي فَرَضْتُ لَهُ بِأَبِيهِ أَبِي سَلَمَةَ رضي الله عنه أَلْفَيْنِ وَزِدْتُهُ بِأُمِّهِ أُمِّ سَلَمَةَ رضي الله عنها[4] أَلْفًا، فَإِنْ كَانَ لَكَ أُمٌّ مِثْلَ أُمِّ سَلَمَةَ رضي الله عنها زِدْتُكَ أَلْفًا!
وَفَرَضَ لأَهْلِ مكة وَالنَّاسِ ثَمَانِمِائَةٍ ثَمَانِمِائَةٍ؛ فَجَاءَ طَلْحَة بن عَبيدِ اللهِ رضي الله عنه بِأَخِيهِ عُثْمَانَ رضي الله عنه فَفَرَضَ لَهُ ثَمَانِمِائَةٍ، فَمَرَّ بِهِ النَّضْرُ بْنُ أَنَسٍ رضي الله عنهما فَقَالَ عُمَرُ رضي الله عنه: افْرِضُوا لَهُ أَلْفَيْنِ. فَقَالَ لَهُ طَلْحَةُ رضي الله عنه: جِئْتُكَ بِمِثْلِهِ فَفَرَضْتَ لَهُ ثَمَانِمِائَةٍ وَفَرَضْتَ لِهَذَا أَلْفَيْنِ؟ فَقَالَ: إِنَّ أَبَا هَذَا لَقِيَنِي يَوْمَ أُحُدٍ فَقَالَ: مَا فَعَلَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم؟ فَقُلْتُ: مَا أُرَاهُ إِلَّا قَدْ قُتِلَ. فَسَلَّ سَيْفَهُ وَكَسَرَ غِمْدَهُ، وَقَالَ: إِنْ كَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَدْ قُتِلَ فَإِنَّ اللهَ حَيٌّ لَا يَمُوتُ، فَقَاتَلَ حَتَّى قُتِلَ، وَأَبُو هَذَا يَرْعَى الشَّاءَ فِي مَكَانِ كَذَا وَكَذَا. فَعمل عمر رضي الله عنه بِهَذَا مُدَّة خِلَافَته[5]!
بقياس الدراهم التي كان يأخذها الناس بالدنانير الأكثر ثباتًا ندرك أن: عطاء أمهات المؤمنين كان 12 ألف درهم، وهي توازي ألف دينار في السنة يعني 4.25 كيلو جرام ذهب، يعني 4.25 مليون جنيه، يعني: أكثر من 220 ألف دولار.
ولمن شهد غزو بدر كان عطائه 5000 درهم، وهي توازي 417 دينار أي 1770 جرام، يعني 93 ألف دولار، أما أقل عطاء فكان 800 درهم توازي 67 دينار أي 283 جرام يعني 15 ألف دولار.
هذه الرِّواية في الحقيقة تُبرِز مدى تيقُّظ عمر رضي الله عنه في مسألة العطاء، وحرصه على تعويض من قَدَّم تضحيةً في سبيل الله في تاريخه السَّابق، كما تُبْرِز مدى اهتمامه بعلاقة المـُعْطَى برسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فكلَّما كان أقرب إلى قلب رسول الله صلى الله عليه وسلم أعطاه أكثر، وفي هذا توقيرٌ كاملٌ للنَّبيِّ صلى الله عليه وسلم.
وضح لنا أيضًا في الرِّواية السَّابقة أنَّ منهج عمر رضي الله عنه في العطاء كان مختلفًا عن منهج الصديق رضي الله عنه، وفي كلٍّ خير، وكان أبو بكرٍ رضي الله عنه يُسَوِّي في العطاء، ولا ينظر إلى ما قدَّمه كلُّ مسلمٍ من عملٍ سابق؛ فعن ابْنِ أَبِي نُجَيْحٍ قَالَ: قَدِمَ عَلَى أَبِي بَكْرٍ رضي الله عنه مَالٌ؛ فَقَالَ: من كَانَ لَهُ عِنْدَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم عِدَةٌ[6] فَلْيَأْتِ؛ فَجَاءَهُ جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللهِ رضي الله عنهما فَقَالَ: قَالَ لِي رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: لَوْ جَاءَ مَالُ الْبَحْرين أَعطيتك هَكَذَا وَهَكَذَا وَهَكَذَا[7]، يُشِير بِيَدِهِ؛ فَقَالَ لَهُ أَبُو بَكْرٍ رضي الله عنه: خُذْ؛ فَأَخَذَ بكفيه ثمَّ عَدَّه فَوَجَدَهُ خَمْسَمِائَةٍ، فَقَالَ: خُذْ إِلَيْهَا أَلْفًا؛ فَأَخَذَ أَلْفًا.
ثُمَّ أَعْطَى كُلَّ إِنْسَانٍ كَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم وَعَدَهُ شَيْئًا، وَبَقِيَتْ بَقِيَّةٌ مِنَ الْمَالِ، فَقَسَّمَهَا بَيْنَ النَّاسِ بِالسَّوِيَّةِ؛ عَلَى الصَّغِيرِ وَالْكَبِيرِ، وَالْحُرِّ وَالْمَمْلُوكِ، وَالذَّكَرِ وَالأُنْثَى، فَخَرَجَ عَلَى سَبْعَةِ دَرَاهِمَ وَثُلُثٍ لِكُلِّ إِنْسَانٍ.
فَلَمَّا كَانَ الْعَامُ الْمُقْبِلُ جَاءَ مَالٌ كَثِيرٌ هُوَ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ؛ فَقَسَّمَهُ بَيْنَ النَّاسِ، فَأَصَابَ كُلُّ إِنْسَانٍ عِشْرِينَ دِرْهَمًا. قَالَ: فَجَاءَ نَاسٌ مِنَ المُسْلِمِينَ فَقَالُوا: يَا خَلِيفَةَ رَسُولِ اللهِ، إِنَّكَ قَسَّمْتَ هَذَا الْمَالَ، فَسَوَّيْتَ بَيْنَ النَّاسِ، وَمِنَ النَّاسِ أُنَاسٌ لَهُمْ فَضْلٌ وَسَوَابِقُ وَقِدَمٌ؛ فَلَوْ فَضَّلْتَ أَهْلَ السَّوَابِقِ وَالْقِدَمِ وَالْفَضْلِ بِفَضْلِهِمْ، قَالَ: فَقَالَ: أَمَّا مَا ذَكَرْتُمْ مِنَ السَّوَابِقِ وَالْقِدَمِ وَالْفَضْلِ فَمَا أَعْرَفَنِي بِذَلِك؟ وَإِنَّمَا ذَلِكَ شَيْءٌ ثَوَابُهُ عَلَى اللهِ جَلَّ ثَنَاؤُهُ، وَهَذَا مَعَاشٌ، فَالأُسْوَةُ فِيهِ خير من الأَثَرَة[8].
كانت هذه هي رؤية أبي بكر رضي الله عنه، وله فيها وجهة نظرٍ معتبرة، وكذلك كانت وجهة نظر عمر رضي الله عنه معتبرة، وفي كلٍّ خير، وكلاهما سُنَّةٌ صالحةٌ يمكن للمسلمين الاقتداء بأيِّهما.
بقي أن نُشير إلى أنَّ هذه الأرقام التي نذكرها كانت كبيرةً جدًّا بالقياس إلى الزمن الذي وُزِّعت فيه؛ فهي ثرواتٌ غير مسبوقةٍ لأكثرهم، ومن الجميل أن نختم هذا المقال بذكر روايةٍ توضِّح ردَّ فعل أمِّ المؤمنين زينب بنت جحش رضي الله عنها عندما جاءها عطاء عمر رضي الله عنه، فظنَّت -لكثرته- أنَّه عطاء أمهات المؤمنين جميعًا، وأنَّ عليها تقسيمه! فكان هذا الموقف المؤثِّر! عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: فَلَمَّا آتى زَيْنَب بنت جَحْشٍ رضي الله عنها مَالَهَا قَالَتْ: غَفَرَ اللهُ لأَمِيرِ المُؤْمِنِينَ، لَقَدْ كَانَ فِي صَوَاحِبَاتِي[9] مَنْ هُوَ أَقْوَى عَلَى قِسْمَةِ هَذَا الْمَالِ مِنِّي؛ فَقِيلَ لَهَا: إِنَّ هَذَا كُلَّهُ لَكِ، فَأَمَرَتْ بِهِ فَصُبَّ، وَغَطَّتْهُ بِثَوْبٍ، ثُمَّ قَالَتْ لِبَعْضِ مَنْ عِنْدَهَا: أدخلي يَديك لآلِ فُلانٍ وَآلِ فُلانٍ؛ فَلَمْ تَزَلْ تُعْطِي لآلِ فُلانٍ وَآلِ فُلانٍ حَتَّى قَالَتْ لَهَا الَّتِي تُدْخِلُ يَدَهَا: لَا أَرَاكِ تَذْكُرِينِي وَلِي عَلَيْكِ حَقٌّ. فَقَالَتْ: لَكِ مَا تَحْتَ الثَّوْبِ. قَالَ: فَكَشَفَتِ الثَّوْب فَإِذا ثمَّ خَمْسَةٌ وَثَمَانُونَ دِرْهَمًا، قَالَ: ثُمَّ رَفَعَتْ يَدَهَا فَقَالَتْ: اللَّهُمَّ لَا يُدْرِكْنِي عَطَاءَ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رضي الله عنه بَعْدَ عَامِي هَذَا أَبَدًا[10]، قَالَ: فَكَانَتْ رضي الله عنها أَوَّلَ أَزْوَاجِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم لُحُوقًا بِهِ عَلَيْهِ السَّلامُ[11].[12].
[1] أحمد (15946)، وقال الأرناءوط: هذا الأثر رجاله ثقات. وقال الهيثمي: رواه أحمد، ورجاله ثقات. انظر: الهيثمي: مجمع الزوائد ومنبع الفوائد، 6/3.
[2] المحاملي: أمالي المحاملي، ص248.
[3] عبد الله بن عمر ب من الزَّاهدين، ولا يبحث عن الدنيا في هذا السؤال، ولكنَّه يسأل أوَّلًا لمعرفة رؤية عمر t في التفرقة في العطاء؛ لأنَّه من المؤكَّد أنَّ هناك سببًا لذلك، وثانيًا لأنَّه من الواضح أنَّ العطاء الأكثر يكون لزيادة شرف العمل والجهد، فيخشى عبد الله بن عمر ب أن يكون أبوه قد نقصه لعيبٍ في عمله وجهاده.
[4] هي أمُّ المؤمنين زوجة رسول الله r.
[5] أبو يوسف: الخراج، ص53، 54.
[6] عِدَة أي وعد؛ فالمقصود من كان وَعَدَهُ رسولُ الله r بعطاءٍ ولم يُحقِّقه له في حياته.
[7] أي خمسمائة ثلاث مرَّات؛ يعني ألف وخمسمائة درهم.
[8] أبو يوسف: الخراج، ص53.
[9] أمَّهات المؤمنين رضي الله عنهنَّ.
[10] لخوفها من فتنة المال، ولرغبتها في لقاء الله زاهدة.
[11] أبو يوسف: الخراج، ص56.
[12] لمشاهدة الحلقة على اليوتيوب اضغط هنا: كيف وزع عمر رضي الله عنه مال العطاء
التعليقات
إرسال تعليقك