ملخص المقال
رابعة العدوية واحدة من أشهر النساء في التاريخ الإسلامي بعد أمهات المؤمنين والصحابيات الكرام، تُعد عابدة عالمة فقيهة من نساء القرن الثاني الهجري.
في هذا المقال سوف نتحدث عن واحدة من أشهر النساء في التاريخ الإسلامي بعد أمهات المؤمنين والصحابيات الكرام، وهي رَابِعَةُ ابْنَةُ إِسْمَاعِيلَ العَدَوِيَّةُ الْبَصْرِيَّةُ، وكنيتها أمُّ الخير، مولاةُ آلِ عَتِيكٍ[1]، تُعد رابعة العدوية عابدة عالمة فقيهة من نساء القرن الثاني الهجري، وُلِدت نحو سنة 100 هجرية، وماتت سنة 180 أو 185 هجرية، أي عاشت نحو80 سنة أو أكثر.
قيل سُمِّيت رابعة لأنها كانت الرابعة من البنات في أخواتها، ولكن غير معروف تمامًا لماذا سُمِّيت بالعدوية، ولعل آل عتيك فرع من بني عدوة، سيرتها فيها الكثير من المبالغات، وظهرت هذه المبالغات في الأعمال الفنية والأدبية، فلم تكن منحرفة كما أشيع في بدء حياتها، إنما نشأت في الأغلب على القرآن والعلم، ولم تكن عندها مبالغات الصوفية؛ لأن الصوفية بمعانيها الخارجة عن السُّنَّة لم تكن قد ظهرت بعد في هذه المرحلة المتقدِّمة من التاريخ الإسلامي، بالغ فيها بعض معاصريها بادِّعاء كرامات معينة ونفت هي ذلك.
يلفت النظر في حياة رابعة العدوية أمر لا يقوى على فعله غالب الناس، وهو البعد عن الشهرة، غالب الناس يرغب في أن يكون معروفًا لدى أكبر عدد من الناس، والسوشيال ميديا في هذه الأيام صارت فتنة العصر بسبب موضوع الشهرة، وتحقيق مصالح دنيوية من هذه الشهرة، وفيها آفات خطرة مثل: الشهرة بالأعمال التافهة، الشهرة بالأعمال المنافية للخلق والدين أو بالكذب، الشهرة لمن لا يملك ملكات حقيقية، وبذا فتح باب التنافس بين الخلق جميعًا، الشهرة على مستوى كبير لا يتخيَّله أحد سابقًا مما صار فتنة للناس.
روى ابن ماجه عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ لَبِسَ ثَوْبَ شُهْرَةٍ[2] أَلْبَسَهُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ثَوْبَ مَذَلَّةٍ»[3]. وروى مسلم عن جُنْدُبٍ الْعَلَقِيِّ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ يُسَمِّعْ يُسَمِّعِ اللهُ بِهِ، وَمَنْ يُرَائِي يُرَائِي اللهُ بِهِ»[4]. وعَنِ الْأَعْمَشِ، قَالَ: "كَانَ إِبْرَاهِيمُ بن أدهم[5] يَتَوَقَّى الشُّهْرَةَ، فَكَانَ لَا يَجْلِسُ إِلَى الْأُسْطُوَانَةِ، وكان يقول: "مَنْ أَرَادَ التَّوبَةَ، فَلْيَخرُجْ مِنَ المَظَالِمِ، وَلْيَدَعْ مُخَالطَةَ النَّاسِ، وَإِلاَّ لَمْ يَنَلْ مَا يُرِيْدُ"[6]. وروى الدارمي عَنْ خَيْثَمَةَ، قَالَ: «كَانَ الْحَارِثُ بْنُ قَيْسٍ الْجُعْفِيُّ[7] -وَكَانَ مِنْ أَصْحَابِ عَبْدِ اللَّهِ وَكَانُوا مُعْجَبِينَ بِهِ- فَكَانَ» يَجْلِسُ إِلَيْهِ الرَّجُلُ وَالرَّجُلَانِ، فَيُحَدِّثُهُمَا، فَإِذَا كَثُرُوا، قَامَ وَتَرَكَهُمْ"[8].
آثرت رابعة العدوية الاعتزال، وعدم الاختلاط بالناس على الرغم من أنها كانت عالمة يمكن أن يكون لها أتباع وطلَّاب علم، نعم هي تركت باب التعليم على فضله، لكنها اختارت الأكثر أمانًا، والأقلَّ فتنة.
روى البخاري أَنَّ أَبَا سَعِيدٍ الخُدْرِيَّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَيُّ النَّاسِ أَفْضَلُ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مُؤْمِنٌ يُجَاهِدُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِنَفْسِهِ وَمَالِهِ»، قَالُوا: ثُمَّ مَنْ؟ قَالَ: «مُؤْمِنٌ فِي شِعْبٍ مِنَ الشِّعَابِ يَتَّقِي اللَّهَ، وَيَدَعُ النَّاسَ مِنْ شَرِّهِ»[9].
وفي المقابل عند أحمد وهو صحيح عَنْ ابْنِ عُمَرَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "الْمُؤْمِنُ الَّذِي يُخَالِطُ النَّاسَ وَيَصْبِرُ عَلَى أَذَاهُمْ، أَعْظَمُ أَجْرًا مِنْ الْمُؤْمِنِ الَّذِي لَا يُخَالِطُ النَّاسَ وَلَا يَصْبِرُ عَلَى أَذَاهُمْ"[10].
وكلٌّ أدرى بحاله!
موقف رابعة من سفيان الثوري[11]:
قالت رابعة لسفيان: نِعْمَ الرَّجل أنت لولا أنَّك تُحبُّ الدُّنيا! وقد كان سفيان زاهدًا في الدُّنيا عالمـًا، إلَّا أنَّها كانت تجعل إيثار كتب الحديث والإقبال على النَّاس من أبواب الدُّنيا[12].
قال عَبَّاسٌ الدُّوْرِيُّ: رَأَيتُ يَحْيَى بنَ مَعِيْنٍ، لاَ يُقدِّمُ عَلَى سُفْيَانَ أَحَداً فِي زَمَانِهِ فِي الفِقْهِ، وَالحَدِيْثِ، وَالزُّهدِ، وَكُلِّ شَيْءٍ، وقال جَعْفَر بن سُلَيْمَان: أَخذ بيَدي سُفْيَان الثَّوْريّ وَقَالَ: مُرَّ بِي إِلَى المؤدبة الَّتِي لَا أجدني أستريح إِذا فارقتها، فَلَمَّا دَخَلنَا عَلَيْهَا رفع سُفْيَان يَده وَقَالَ اللَّهُمَّ إِنِّي أَسأَلك السَّلامَة فَبَكَتْ رَابِعَة فَقَالَ مَا يبكيك؟ قَالَت أَنْت عرضتني للبكاء فَقَالَ لَهَا وَكَيف؟ فَقَالَت أما علمت أَن السَّلامَة من الدُّنْيَا ترك مَا فِيهَا فَكيف وَأَنت متلطخ بهَا [13].
ولقي سفيان الثوري رابعة -وكانت زرية الحال- فقال لها: يا أم عمرو أرى حالاً رثة فلو أتيت جارك فلاناً لغيَّر بعض ما أرى، فقالت له: يا سفيان وما ترى من سوء حالي؟ ألست على الإسلام؟ فهو العز الذي لا ذل معه والغني الذي لا فقر معه والأنس الذي لا وحشة معه؛ والله إني لأستحيي أن أسأل الدنيا من يملكها فكيف أسألها من لا يملكها؟ فقال سفيان: ما سمعت مثل هذا الكلام!
قال بِشْرُ بنُ صَالِحٍ العَتَكِيُّ: اسْتَأْذَنَ نَاسٌ عَلَى رَابِعَةَ وَمَعَهُم سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ، فتذاكروا عندها سَاعَةً، وَذَكَرُوا شَيْئاً مِنَ الدُّنْيَا، فَلَمَّا قَامُوا، قَالَتْ لِخَادِمَتِهَا: إِذَا جَاءَ هَذَا الشَّيْخُ وَأَصْحَابُهُ، فَلاَ تَأْذَنِي لَهُم، فَإِنِّي رَأَيتُهُم يُحِبُّونَ الدُّنْيَا[14].
وقالت رابعة لسفيان: إنما أنت أيام معدودة فإذا ذهب يوم ذهب بعضك ويوشك إذا ذهب البعض أن يذهب الكل وأنت تعلم فاعمل[15]، وهذا يفسِّر إعراض رابعة عن الزواج، والواقع من الجميل أنها فعلت، لأن الحياة معها بهذا الزهد صعبة، وقد تكون مقصِّرة في حقِّ الزوج والأولاد والبيت وهذه طبائع، وقد أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا ذرٍّ أن يعتزل الناس إذا بلغ البناء سلعًا، وهذا لأن الناس لن تطيق زهده الزائد عن طاقتهم، ومع ذلك لم ينكر عليه زهده.
ورفضت رابعة العدوية الزواج من تاجر كبير شهير أبو سليمان الهاشمي، وردَّت على عرضه المغري بصداق كبير برسالة قالت فيها: أما بعد فإن الزهدَ في الدنيا راحةُ القلب والبدن، والرغبة فيها تورث الهمَّ والحزن، فإذا أتاك كتابي فهيء زادَك وقدِّم لمعادك، وكن وصيَّ نفسك، ولا تجعل وصيَّتَك إلى غيرك، وصم دهرك، واجعل الموت فِطْرَك، فما يسرني أن الله خوَّلني أضعاف ما خوَّلك فيَشْغَلُني بك عنه طرفة عين والسلام!
فسَّرت فلسفتها في الاعتزال:
1- لا ترغب في الاشتهار بين الناس، وبالتالي العمل من أجلهم لا من أجل الله.
2- ولا ترغب في اطِّلاعهم على أعمالها.
وعن زُلْفَى بِنْتِ عَبْدِ الوَاحِدِ، قالت: قلتُ لرابعة: يا عمَّة، لم لا تأذنين للنَّاس يدخلون عليكِ؟ فقالت: وما أرجو من النَّاس؟ إن أتوني حَكَوا عنِّي ما لم أقل أو أفعل، ما لو رأيتُه لفزعت منه، واستوحشت منه، بلغني أنَّهم يقولون: إنِّي أجدُ الدَّراهم تحت مصلَّاي، وأطبخُ القدرَ بغير نار. فقلت لها: إنَّهم يُخبرون عنكِ أنَّكِ تجدين الطَّعام والشَّراب في منزلك: فهل تجدين شيئًا فيه؟ فقالت: يا بنتَ أخي، لو وجدتُ في منزلي شيئًا من ذلك ما مسستُه، ولا وضعتُ يدي عليه، ولكنِّي أُخبرك أنِّي أشتري الشيءَ فيُبارَك لي فيه[16].
من أقوالها: ما ظهر من أعمالي فلا أعدُّه شيئًا، وقالت: اكتموا حسناتكم كما تكتمون سيِّئاتكم[17].
قَالَ صَالح المري[18] بَين يَديهَا: مَنْ أَكثر قرع الْبَاب يفتح لَهُ! فَقَالَت: الْبَاب مفتوح، وَلَكِن الشَّأْن فِيمَن يرغب أَن يدْخلهُ[19]!
ظلَّت رابعة العدوية على هذه الحال حتى موتها:
توفيت رابعة العدوية عام 180هـ، أو 185هـ، عن عُمرٍ يُناهز نحو 80 سنة، كانت وفاتها بالبصرة[20] وليس بالقدس كما هو مشتهر، ولها قبر بها زاره الصفدي عدة مرَّات، ولكنه لرابعة بنت إسماعيل الشامية، وهي معاصرة لرابعة العدوية، ومن هنا جاء الخلط.
قال عبيس بن مرحوم العطار: حدثتني عبدة بنت أبي شوال، وكانت من خيار إماء الله، وكانت تخدم رابعة. قالت: كانت رابعة تصلي الليل كله فإذا طلع الفجر هجعت في مصلاها هجعة خفيفة حتى يسفر الفجر، فكنت أسمعها تقول إذا وثبت من مرقدها ذلك وهي فزعة: يا نفس كم تنامين؟ وإلى كم تقومين؟ يوشك أن تنامي نومة لا تقومين منها إلا لصرخة يوم النشور.
قالت: فكان هذا دأبها دهرَها حتى ماتت. فلما حضرتها الوفاة دعتني قالت: يا عبدة لا تؤذني بموتي أحداً وكفنيني في جبتي هذه، وهي جبة من شعر كانت تقوم فيها إذا هدأت العيون. قالت: فكفناها في تلك الجبة وخمار صوف كانت تلبسه[21].
رحم الله رابعة العدوية، تعبت كثيرًا، ولكنها كانت خير قدوة، للرجال والنساء معًا، وما أجمل أن يجمع المرء بين العلم والزهد، والسعي الجادِّ إلى الإخلاص[22].
[1] ابن خلكان: وفيات الأعيان وأنباء أبناء الزمان، 2/285.
[2] ثوب الشهرة: ما لا يحل لبسه، أو ما يُقصد بلبسه التفاخر والتكبر، أو ما يتخذه البعض ليجعل به نفسه ضُحْكَة بين الناس.
[3] ابن ماجه: كتاب اللباس، باب من لبس شهرة من الثياب (3606)، قال الشيخ الألباني: حسن.
[4] مسلم: كتاب الزهد والرقائق، باب من أشرك في عمله غير الله (2987).
[5] إِبراهيم بن أدهم: من كبار العلماء الزهاد.
[6] ابن عساكر: تاريخ دمشق، تحقيق: عمرو بن غرامة العمروي دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع: 1415هـ- 1995م، 6/ 288.
[7] قال عنه الذهبي: العَابِدُ، الفَقِيْهُ، صَحِبَ عَلِيّاً، وَابْنَ مَسْعُوْدٍ، وَقَلَّمَا رَوَى، انظر: الذهبي: سير أعلام النبلاء، 4/ 75.
[8] الدارمي: (521)، وقال حسين سليم أسد: إسناده صحيح.
[9] البخاري: كتاب الجهاد والسير، باب أفضل الناس مؤمن يجاهد بنفسه وماله في سبيل الله (2634).
[10] أحمد (5022)، وقال: شعيب الأرناءوط: إسناده صحيح رجاله ثقات رجال الشيخين.
[11] سفيان الثوري من أجلِّ العلماء، وسمَّاه شعبة بن الحجاج، وسفيان بن عيينة، ويحيى بن معين، بأمير المؤمنين في الحديث، وقال عنه الذهبي: "هُوَ شَيْخُ الإِسْلاَمِ، إِمَامُ الحُفَّاظِ، سَيِّدُ العُلَمَاءِ العَامِلِيْنَ فِي زَمَانِهِ"، وكان ممن يتأدَّبون على يد رابعة العدوية مع أنه أكبر منها في السِّنِّ: قال أبو سعيدٍ الأعرابيُّ: أمَّا رابعة فقد حمل النَّاس عنها حكمةً كثيرة، وحكى عنها سفيان، وشعبة، وغيرهما.
[12] أبي طالب المكي: قوت القلوب في معاملة المحبوب ووصف طريق المريد إلى مقام التوحيد، 2/94.
[13] طبقات الصوفية للسلمي ويليه ذكر النسوة المتعبدات الصوفيات (ص: 387)
[14] سير أعلام النبلاء ط الحديث (7/ 273)
[15] كلام الحسن البصري، وهي من البصرة.
[16] سبط ابن الجوزي: مرآة الزمان في تواريخ الأعيان، 12/31.
[17] ابن خلكان: وفيات الأعيان وأنباء أبناء الزمان، 2/285.
[18] صالح المري: من كبار الوعَّاظ الزهاد، ولكنه ضعيف في الحديث
[19] طبقات الصوفية للسلمي ويليه ذكر النسوة المتعبدات الصوفيات (ص: 389)
[20] سبط ابن الجوزي: مرآة الزمان في تواريخ الأعيان، 12/33.
[21] صفة الصفوة (2/ 245)
[22] لمشاهدة الحلقة على اليوتيوب اضغط هنا: رابعة العدوية واعتزال الناس
التعليقات
إرسال تعليقك