التاريخ الإسلامي
دون تشويه أو تزوير
التاريخ الإسلامي يمتد منذ بداية الدعوة الإسلامية بعد نزول الوحي على رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم تأسيس الدولة الإسلامية بالمدينة المنورة وحكم الخلفاء الراشدين، مرورًا بالدولة الأموية فالدولة العباسية بما تضمنته من إمارات ودول مثل السلاجقة والغزنوية في وسط آسيا والعراق وفي المغرب الأدارسة والمرابطين ثم الموحدين وأخيرًا في مصر الفاطميين والأيوبيين والمماليك ثم سيطرة الدولة العثمانية التي تعتبر آخر خلافة إسلامية على امتداد رقعة جغرافية واسعة، وهذه البوابة تعنى بتوثيق التاريخ من مصادره الصحيحة، بمنهجية علمية، وعرضه في صورة معاصرة دون تشويه أو تزوير، وتحليل أحداثه وربطها بالواقع، واستخراج السنن التي تسهم في بناء المستقبل.
ملخص المقال
كانت قبيلة قريش في المرحلة التي سبقت الإسلام تعبد الأصنام، بل كانت بعد الإسلام أشدَّ أعداء المسلمين، فهل نعظِّم نسب قريش أم لا نكترث بمسألة النسب؟
معايير الشرف في تفضيل العرب لقبيلة على الأخرى كلها معايير مادية دنيوية، لم يُنْظَر فيها إلى البعد الشرعي، بل كانت قريش في هذه المرحلة التي سبقت الإسلام تعبد الأصنام، بل ستكون لفترة طويلة أشدَّ أعداء المسلمين، وهذا يحدث خلطًا عند القراء!
فهل نعظِّم نسب قريش أم لا نكترث بمسألة النسب؟
أولًا: الشريعة اهتمَّت بمسألة شرف النسب في أمور:
1- جعل اللهُ تعالى شرف نسب الرسول صلى الله عليه وسلم من دلائل نبوَّته:
كان محمد ﷺ أشرف الناس نسبًا، وهذا أمر يفعله الله دومًا مع رسله؛ إذ يصطفيهم من أرفع الأقوام شرفًا لكي يكون ذلك دافعًا للناس لاتِّباعهم؛ قال تعالى: ﴿اللهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا وَمِنَ النَّاسِ﴾ [الحج: 75]، وقد شهد أبو سفيان بن حرب رضي الله عنه قبل أن يُسْلِم أمام هرقل قيصر الروم أنَّ الرسول ﷺ عظيم النسب؛ فقال عندما سأله هرقل عن نسبه: «هُوَ فِينَا ذُو نَسَبٍ»، وعلَّق هرقل على ذلك بذكره حقيقة اصطفاء الله لرسله من الأنساب الشريفة، وهي حقيقة عَلِمَها من التوراة والإنجيل؛ قال هرقل: «سَأَلْتُكَ عَنْ نَسَبِهِ فَذَكَرْتَ أَنَّهُ فِيكُمْ ذُو نَسَبٍ، فَكَذَلِكَ الرُّسُلُ تُبْعَثُ فِي نَسَبِ قَوْمِهَا»[1].
2- قصة لوط:
عَنْ أَبِي هريرة رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، فِي قَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ: {أَوْ آوِي إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ} [هود: 80]، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «رَحِمَ اللَّهُ لُوطًا كَانَ يَأْوِي إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ، وَمَا بَعَثَ اللَّهُ بَعْدَهُ نَبِيًّا إِلَّا فِي ثَرْوَةٍ مِنْ قَوْمِهِ»[2].
3- موقف شعيب:
{قَالُوا يَا شُعَيْبُ مَا نَفْقَهُ كَثِيرًا مِمَّا تَقُولُ وَإِنَّا لَنَرَاكَ فِينَا ضَعِيفًا وَلَوْلَا رَهْطُكَ لَرَجَمْنَاكَ وَمَا أَنْتَ عَلَيْنَا بِعَزِيزٍ} [هود: 91].
ثانيًا: هناك تعظيم خاصٌّ بقريش بجعل الإمامة العظمى فيها:
روى البخاري عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: «النَّاسُ تَبَعٌ لِقُرَيْشٍ فِي هَذَا الشَّأْنِ، مُسْلِمُهُمْ تَبَعٌ لِمُسْلِمِهِمْ، وَكَافِرُهُمْ تَبَعٌ لِكَافِرِهِمْ»[3].
وروى مسلم عن جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ، يَقُولُ: قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «النَّاسُ تَبَعٌ لِقُرَيْشٍ فِي الْخَيْرِ وَالشَّرِّ»[4].
ثالثًا: خصَّ الله قريشًا بمزايا وفضائل ليست لغيرها:
عَنْ أُمِّ هَانِئٍ بِنْتِ أَبِي طَالِبٍ، قالت: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «فَضَّلَ اللهُ قُرَيْشًا بِسَبْعِ خِصَالٍ لَمْ يُعْطَهَا أَحَدٌ قَبْلَهُمْ، وَلَا يُعْطَاهَا أَحَدٌ بَعْدَهُمْ: فَضَّلَ اللهُ قُرَيْشًا أَنِّي مِنْهُمْ فَإِنَّ النُّبُوَّةَ فِيهِمْ، وَإِنَّ الْحِجابَةَ فِيهِمْ، وَإِنَّ السِّقَايَةَ فِيهِمْ، ونَصَرَهُمْ عَلَى الْفِيلِ، وعَبَدُوا اللهَ عَشْرَ سِنِينَ لَا يَعْبُدُهُ غَيْرُهُمْ، وَأَنْزَلَ اللهُ فِيهِمْ سُورَةً مِنَ الْقُرْآنِ لَمْ تَنْزِلْ فِي أَحَدٍ غَيْرِهِمْ»[5].
1- ولكون الرسول صلى الله عليه وسلم من قريش فهذه فضيلة بذاتها لكمال أخلاقه،
2- النبوة فضيلة ثانية.
3- الحجابة أي سدانة الكعبة وحفظها، وهي لبني شيبة.
4- السقاية من زمزم وكانت للعباس من بني هاشم.
5- النصرة على أصحاب الفيل.
6- عبادة العشر سنين مقصود بها الفترة المكية منذ أعلن الرسول صلى الل عليه وسلم الإسلام في مكة وقبل إسلام الأنصار.
7- السورة سورة قريش.
رابعًا: الحسبة الأخروية:
ليس في هذا تعارضٌ مع القاعدة الشرعية التي ترفع من قدر المسلم التقي، ولو كان من قبيلة خاملة، على غيره من غير المتَّقين، ولو كان من أشرف القبائل؛ بمعنى أن هذه الحسبة التي نشرحها هي حسبة دنيوية لها تطبيقاتها السياسية المعتبرة، لكنها ليست الحسبة الأخروية، فهذه مختلفة تمامًا.
1- قال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} [الحجرات: 13]
2- روى الترمذي عَنْ ابْنِ عُمَرَ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَطَبَ النَّاسَ يَوْمَ فَتْحِ مَكَّةَ، فَقَالَ: "يَا أَيُّهَا النَّاسُ، إِنَّ اللَّهَ قَدْ أَذْهَبَ عَنْكُمْ عُبِّيَّةَ الجَاهِلِيَّةِ وَتَعَاظُمَهَا بِآبَائِهَا، فَالنَّاسُ رَجُلَانِ: بَرٌّ تَقِيٌّ كَرِيمٌ عَلَى اللَّهِ، وَفَاجِرٌ شَقِيٌّ هَيِّنٌ عَلَى اللَّهِ، وَالنَّاسُ بَنُو آدَمَ، وَخَلَقَ اللَّهُ آدَمَ مِنْ تُرَابٍ"، قَالَ اللَّهُ: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} [الحجرات: 13][6].
3- روى أحمد عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "لَا تَفْتَخِرُوا بِآبَائِكُمْ الَّذِينَ مَاتُوا فِي الْجَاهِلِيَّةِ، فَوَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَمَا يُدَهْدِهُ[7]الْجُعَلُ[8] بِمَنْخَرَيْهِ، خَيْرٌ مِنْ آبَائِكُمْ الَّذِينَ مَاتُوا فِي الْجَاهِلِيَّةِ"[9].
أجمل الأمور أن الذي يقول هذا الكلام هو أشرف العرب نسبًا، فهو لا يقول هذا الكلام عن قلة أو عجز، إنما هو نصح حقيقي لصلاح البشرية.
خامسًا: القبائل في عين رسول الله صلى الله عليه وسلم:
صارت قيمة القبائل راجعة إلى موقفها الإيماني، وهذه نقلة نوعية في المجتمع العربي:
قبائل شريفة من المنظور الإسلامي: رفع رسول الله صلى الله عليه وسلم من قدر القبائل التي أسرعت إلى الإسلام بصرف النظر عن تاريخها وشرفها؛ ففي البخاري عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «قُرَيْشٌ، وَالأَنْصَارُ، وَجُهَيْنَةُ، وَمُزَيْنَةُ، وَأَسْلَمُ، وَأَشْجَعُ، وَغِفَارُ مَوَالِيَّ، لَيْسَ لَهُمْ مَوْلًى دُونَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ»[10].
يقول ذلك مع أن تاريخ بعض هذه القبائل غير مشرق؛ فغفار اشتُهرت بسرقة الحجيج، ومزينة شنَّع عليها الشعراء قديمًا.
الخلاصة بخصوص رعاية الكعبة:
الوضع السياسي مهم جدًّا في تنظيم الرعاية للكعبة، فقد جعلها الله تعالى في قريش تكريمًا للكعبة، وتكريمًا لقريش، وتوفيرًا لأجواء آمنة للحرم في أغلب الوقت لا في كلِّه بالتأكيد؛ فإن لكل قاعدة استثناء، والاستثناء يؤكِّد القاعدة لا ينفيها.
من الجميل أن نفهم أن الله تعالى جعل رعاية الكعبة شأنًا قرشيًّا إلى يوم القيامة، هذا على الرغم من أنه سبحانه وتعالى يعلم أن الأحوال ستتغيَّر، ولن تكون موازين القوى بيد قريش على طول الزمان.
روى الطبراني عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِي اللهُ عَنْهُما، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «خُذُوهَا يَا بَنِي طَلْحَةَ خَالِدَةً تالدةً لَا يَنْزِعُهَا مِنْكُمْ إِلَّا ظَالِمٌ[11]» -يَعْنِي حِجَابَةَ الْكَعْبَةِ-
لكن أحب أن أختم بما أريده أن يعلق في أذهان القراء:
روى مسلم عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «.. وَمَنْ بَطَّأَ بِهِ عَمَلُهُ، لَمْ يُسْرِعْ بِهِ نَسَبُهُ»[12]!
وروى الترمذي عن بُرَيْدَة أنَّ له رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يَا بِلَالُ بِمَ سَبَقْتَنِي إِلَى الجَنَّةِ؟[13]"، وأبو لهب القرشي الهاشمي قال الله في حقِّه: {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ} [المسد: 1].
وقد أفهمنا رسولُ الله صلى الله عليه وسلم الأمرَ من أوائل أيام الدعوة، وتغيُّر المعايير في العرب والعالم:
روى البخاري عن أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: قَامَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ أَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ} [الشعراء: 214]، قَالَ: «يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ -أَوْ كَلِمَةً نَحْوَهَا- اشْتَرُوا أَنْفُسَكُمْ، لاَ أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا، يَا بَنِي عَبْدِ مَنَافٍ لاَ أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا، يَا عَبَّاسُ بْنَ عَبْدِ المُطَّلِبِ لاَ أُغْنِي عَنْكَ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا، وَيَا صَفِيَّةُ عَمَّةَ رَسُولِ اللَّهِ لاَ أُغْنِي عَنْكِ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا، وَيَا فَاطِمَةُ بِنْتَ مُحَمَّدٍ سَلِينِي مَا شِئْتِ مِنْ مَالِي لاَ أُغْنِي عَنْكِ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا»[14].[15].
[1] البخاري: كتاب بدء الوحي، باب كيف كان بدء الوحي إلى رسول الله ﷺ (7)، ومسلم: الجهاد والسير، باب كتاب النبي ﷺ إلى هرقل (1773) بلفظ ذو حسب.
[2] الحاكم في المستدرك (4054)
[3] البخاري: كتاب المناقب، باب قول الله تعالى { يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم } (3305).
[4] مسلم: كتاب الإمارة، باب الناس تبع لقريش والخلافة في قريش (1818).
[5] الطبراني: المعجم الكبير (994)، والحاكم: المستدرك (6877)، وقال الألباني: (حسن). انظر صحيح الجامع (4209).
[6] الترمذي: كتاب تفسير القرآن عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، باب ومن سورة الحجرات (3270)، قال الشيخ الألباني : صحيح.
[7] يدهده: يدحرج، والمقصود الروث.
[8] الجعل: الخنفساء.
[9] أحمد (2739) قال شعيب الأرناءوط: إسناده صحيح.
[10] الطبراني (5254).
[11] الطبراني في المعجم الوسيط (488).
[12] مسلم: كتاب الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار، باب فضل الاجتماع على تلاوة القرآن وعلى الذكر (2699).
[13] الترمذي: كتاب المناقب عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، باب في مناقب عمر بن الخطاب رضي الله عنه (3689).
[14] البخاري: كتاب الوصايا، باب هل يدخل النساء والولد في الأقارب (2602)
[15] لمشاهدة الحلقة على اليوتيوب اضغط هنا: قريش في الشريعة الإسلامية
التعليقات
إرسال تعليقك