ملخص المقال
عمرة بنت عبد الرحمن بن سعد بن زرارة الأنصارية، هي تابعية جليلة تربَّت على يد أم المؤمنين عائشة، جدها سعد بن زرارة من قدماء الصحابة.
حديثنا في هذا المقال عن عَمْرَةُ بِنْتُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ سعد بن زرارة سَعْدِ بْنِ زُرَارَةَ الأنصاريَّةُ، وهي تابعية جليلة تربَّت على يد أم المؤمنين عائشة، جدُّها سَعْدُ بْنُ زُرَارَةَ من قدماء الصحابة الأنصار، وهو أخو أسعد بن زرارة، أحد النُّقباء المشهورين الذين بايعوا الرَّسول صلى الله عليه وسلم في العقبة.
عاشت عمرة بعد وفاة السيدة عائشة 48 سنة، وفي تلك الفترة نفعت الناس بعلمها حتى ماتت في سنة 106هـ عن 77 سنة، بينما ماتت عائشة رضي الله عنها في سنة 58هـ، وعند موت عائشة كانت عمرة في التاسعة والعشرين من عمرها.
لعمرة بنت عبد الرحمن موقف مشهور في موطأ مالك: روى مالك عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ، أَنَّهُ قَالَ: أَخْبَرَنِي أَبُو بَكْرِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ الأنصاري[1]، أَنَّهُ أَخَذَ نَبَطِيًّا قَدْ سَرَقَ خَوَاتِمَ مِنْ حَدِيدٍ. فَحَبَسَهُ لِيَقْطَعَ يَدَهُ. فَأَرْسَلَتْ إِلَيْهِ عَمْرَةُ بِنْتُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ مَوْلَاةً لَهَا يُقَالُ لَهَا أُمَيَّةُ قَالَ: أَبُو بَكْرٍ: فَجَاءَتْنِي وَأَنَا بَيْنَ ظَهْرَانَيِ النَّاسِ. فَقَالَتْ: تَقُولُ لَكَ خَالَتُكَ عَمْرَةُ: يَا ابْنَ أُخْتِي أَخَذْتَ نَبَطِيًّا فِي شَيْءٍ يَسِيرٍ ذُكِرَ لِي فَأَرَدْتَ قَطْعَ يَدِهِ؟ قُلْتُ: نَعَمْ. قَالَتْ: فَإِنَّ عَمْرَةَ تَقُولُ لَكَ: لَا قَطْعَ إِلَّا فِي رُبُعِ دِينَارٍ فَصَاعِدًا[2]. قَالَ أَبُو بَكْرٍ: فَأَرْسَلْتُ النَّبَطِيَّ.
الحكم الشرعي في المسألة هو الذي ينبغي أن يُطَبَّق بعيدًا عن الهوى
هوى المرء يكون مع المظلوم ضد الظالم فيما يبدو للناس، قال تعالى: {يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} [ص: 26]. وقد تسمح الناس بالمبالغة في العقاب إذا ثبتت الجريمة، وليس هذا من الشرع.
الموقف هنا فيه سرقة حقيقية، والسارق على الأغلب غير مسلم في مجتمع مسلم (النبطي فلاح من أنباط الشام، وغالبًا نصراني)، وعمرة لا تنكر أنه سرق، وأنه ينبغي أن يُعَاقَب، ولكن ليس بالقطع؛ لأن المسروق لم يبلغ النصاب، وهو ربع دينار كما في الحديث الذي أخبرت به عمرة، وفي رواية البيهقي: "فَضَرَبْتُهُ وَغَرَّمْتُهُ وَخَلَّيْتُ سَبِيلَهُ".
وفيه فائدة أن فوق كل ذي علم عليم؛ لأن أبا بكر بن محمد بن أبي حزم أصلًا من العلماء، وعمل قاضيًا، ولكن خفيت عليه هذه النقطة التي علمتها عمرة، فكاد يقع في خطأ شرعي كبير. قال الذهبي في ترجمته: "كَانَ أَعْلَمَ أَهْلِ زَمَانِهِ بِالقَضَاءِ".
وفيه أيضًا أن السُّنَّة ضرورية لتطبيق القرآن، فالقرآن فيه حكم عام: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالًا مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [المائدة: 38]، وجاءت السنة لتُقَيِّد هذا الحكم المطلق، وتجعل له نصابًا وأمورًا أخرى كالحرز وغيره.
علم عمرة:
أصبحت عمرة بنت عبد الرحمن من فقيهات النِّساء المعدودات، فقد ذكر ابن كثيرٍ أنَّه لم يكن في النِّساء أعلم من تلميذات السَّيِّدة عائشة رضي الله عنها وذكر عَمْرَة في طليعتهنَّ[3].
روت عمرة الحديث -أيضًا- عن أمِّ المؤمنين أمِّ سَلَمَةَ رضي الله عنها، والصحابيِّ رَافِعِ بْنِ خَدِيجٍ رضي الله عنه، وأختِها لأمِّها أمِّ هشام بنت حارثة، وروى الحديثَ عنها ولدُها، أبو الرِّجال محمَّد بن عبد الرَّحمن (سُمِّي بذلك لأن له عشرة من الذكور)، وابناه؛ حارثة ومالك، وابن أختها، القاضي أبو بكر بن حزم، وابناه؛ عبد الله ومحمد، والزُّهْري، ويحيى بن سعيد الأنصاري، وآخرون[4].
عَمْرَةُ بِنْتُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الأنصاريَّة، هي من أعلم الناس بحديث عائشة رضي الله عنها.
قال الْقَاسِمُ بْنُ مُحَمَّدٍ للزُّهْرِيِّ: يَا غُلامٌ، أَرَاكَ تَحْرِصُ عَلَى طَلَبِ الْعِلْمِ، أَفَلا أَدُلُّكَ عَلَى وِعَائِهِ؟ قُلْتُ: بَلَى. قَالَ: عَلَيْكَ بِعَمْرَةَ؛ فَإِنَّهَا كَانَتْ فِي حِجْرِ عَائِشَةَ رضي الله عنها، فَأَتَيْتُهَا فَوَجَدْتُهَا بَحْرًا لَا يُنْزَفُ[5]!
وكان عمر بن عبد العزيز على قناعةٍ كاملةٍ بعلم عَمْرَةَ الغزير، ولقد قال مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، وهو ابْنُ عَمْرَةَ، والشَّهيرُ بأَبِي الرِّجَالِ: قَالَ لِي عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ مَا بَقِيَ أَحَدٌ أَعْلَمُ بِحَدِيثِ عَائِشَةَ رضي الله عنها مِنْهَا- يَعْنِي عَمْرَةَ[6].
الدارمي وهو صحيح عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ دِينَارٍ، قَالَ: «كَتَبَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ رَحِمَهُ اللَّهُ إِلَى أَبِي بَكْرِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ أَنْ اكْتُبْ إِلَيَّ بِمَا ثَبَتَ عِنْدَكَ مِنَ الْحَدِيثِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَبِحَدِيثِ عَمْرَةَ، فَإِنِّي قَدْ خَشِيتُ دُرُوسَ الْعِلْمِ وَذَهَابَهُ».
المستفاد من الموقف:
تغليب الشريعة على الهوى
والاعتماد على العلماء في الفتوى
ومشاركة العلماء للناس في همومها
وجزى الله عمرة خيرًا أن بصَّرتنا بهذه المعاني![7].
[1] أبو بكر بن محمد كان قاضيًا للمدينة عندما كان عمر بن عبد العزيز واليًا عليها، ثم عُزِل عمر عام 93 هجرية في إمارة الوليد بن عبد الملك، ووُلِّي أبو بكر بن محمد، ثمَّ عَزَلَه الوليد، ثم صار والي المدينة من جديد في عهد سليمان بن عبد الملك، ثم أقرَّه عمر بن عبد العزيز على ولاية المدينة في إمارته. وهو ابن أخت عمرة بنت عبد الرحمن (اسمها كبشة بنت عبد الرحمن).
[2] دينار ذهب: 4.25 جرام إذن ربع دينار = 1.062 جرام، والمسألة فيها خلاف بين المذاهب في التقدير لورود أحاديث أخرى تحدِّد النصاب بالفضة، وهذا الأمر لا يقوم به إلا الحاكم، ولا يجوز لعموم الناس أن يقوموا به ولو اعترف السارق بما يزيد على النصاب.
[3] ابن كثير: البداية والنهاية، 11/339.
[4] الذهبي: سير أعلام النبلاء، 4/508.
[5] الذهبي: تاريخ الإسلام وَوَفيات المشاهير وَالأعلام، 2/1152.
[6] ابن سعد: الطبقات الكبرى، 2/295.
[7] لمشاهدة الحلقة على اليوتيوب اضغط هنا: عمرة بنت عبد الرحمن وتغليب الشرع على العاطفة
التعليقات
إرسال تعليقك