التاريخ الإسلامي
دون تشويه أو تزوير
التاريخ الإسلامي يمتد منذ بداية الدعوة الإسلامية بعد نزول الوحي على رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم تأسيس الدولة الإسلامية بالمدينة المنورة وحكم الخلفاء الراشدين، مرورًا بالدولة الأموية فالدولة العباسية بما تضمنته من إمارات ودول مثل السلاجقة والغزنوية في وسط آسيا والعراق وفي المغرب الأدارسة والمرابطين ثم الموحدين وأخيرًا في مصر الفاطميين والأيوبيين والمماليك ثم سيطرة الدولة العثمانية التي تعتبر آخر خلافة إسلامية على امتداد رقعة جغرافية واسعة، وهذه البوابة تعنى بتوثيق التاريخ من مصادره الصحيحة، بمنهجية علمية، وعرضه في صورة معاصرة دون تشويه أو تزوير، وتحليل أحداثه وربطها بالواقع، واستخراج السنن التي تسهم في بناء المستقبل.
ملخص المقال
يتَّهم بعضُ الناس عمرَ رضي الله عنه بتغيير حدِّ جلد شارب الخمر، وزيادته عمَّا تقتضيه الشريعة وكان متَّبعًا في زمان الرسول ﷺ، فما حقيقة ذلك؟
جلد شارب الخمر ثمانين جلدة في عهد عمر رضي الله عنه:
يتَّهم بعضُ الناس عمر رضي الله عنه بتغيير حدِّ جلد شارب الخمر، وزيادته عمَّا تقتضيه الشريعة وكان متَّبعًا في زمان الرسول ﷺ، والواقع أنَّ حدَّ الخمرِ ليس منصوصًا على تقييده بعددِ جلداتٍ معيَّن -كحدَّي الزِّنا والقذف- لا في القرآنِ ولا في السُّنَّةِ، والأمرُ فيه متروكٌ للإمامِ، يُقَدِّر فيه عددَ الجلداتِ حسب الظُّروفِ التي تمرُّ بها الدَّولةُ، ومدى اجتراءِ النَّاس على شربِ الخمرِ. هكذا شاء الله أَنْ يجعل هذا الأمرَ متغيِّرًا، ويجعل حدَّي الزِّنَا والقذفِ ثابتَيْن، ونحن في كلِّ ذلك طائعون. عَنِ السَّائِبِ بْنِ يَزِيدَ رضي الله عنه، قَالَ: «كُنَّا نُؤْتَى بِالشَّارِبِ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللهِ ﷺ، وَإِمْرَةِ أبِي بكرٍ رضي الله عنه، وَصَدْرًا مِنْ خِلاَفَةِ عُمَرَ رضي الله عنه، فَنَقُومُ إِلَيْهِ بِأَيْدِينَا وَنِعَالِنَا وَأَرْدِيَتِنَا، حَتَّى كَانَ آخِرُ إِمْرَةِ عُمَرَ رضي الله عنه، فَجَلَدَ أَرْبَعِينَ، حَتَّى إِذَا عَتَوْا وَفَسَقُوا جَلَدَ ثَمَانِينَ»[1].
نلحظ في الرِّواية السَّابقة أَنَّ السَّائِبَ بْنَ يَزِيدَ رضي الله عنه لم يُحَدِّد عدد الجلدات أصلًا في عهدِ الرَّسولِ ﷺ، وهذا يُؤكِّد أَنَّ الأمرَ تقديريٌّ، ومتوقِّفٌ على تقدير الحاكم لمدى جرأةِ النَّاسِ على الفعل، فإِنْ كان الورع هو الأغلبُ قلَّل العددَ، وإِنْ كان الفسقُ قد استشرى زاد فيه، على ألَّا يزيد على الثَّمانين؛ لأنَّ ذلك هو الأقصى في سُنَّةِ الخلفاءِ الرَّاشدين، ولكيلا يزيد على أخفِّ الحدودِ التي شرعها الله، وهو حدُّ القذفِ، ويدعم هذا المبدأ روايةُ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه، وذكر فيها «أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ أُتِيَ بِرَجُلٍ قَدْ شَرِبَ الْخَمْرَ، فَجَلَدَهُ بِجَرِيدَتَيْنِ نَحْوَ أَرْبَعِينَ»، قَالَ: وَفَعَلَهُ أَبُو بَكْرٍ رضي الله عنه، فَلَمَّا كَانَ عُمَرُ رضي الله عنه اسْتَشَارَ النَّاسَ، فَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ (ابْنُ عَوْفٍ) رضي الله عنه: أَخَفَّ الْحُدُودِ ثَمَانِينَ، «فَأَمَرَ بِهِ عُمَرُ رضي الله عنه»[2].
ونلحظُ في هذه الرِّواية أَنَّ أَنَسًا رضي الله عنه قال: «نَحْوَ أَرْبَعِينَ»، فهذا تصريحٌ بأَنَّ الرَّقم غيرُ محدَّدٍ، وإلَّا لذكره دون تقريبٍ، ونُلاحظ أيضًا أَنَّ الشَّاربَ ضُرِبَ بجريدتين، فهذا قد يحمله بعضهم على أربعين جلدةً، وقد يحمله آخرون على ثمانين جلدةً (كلُّ جريدةٍ أربعين)، وهذا يُعطي مجالًا للاجتهادِ عند الفقهاء والحكَّام عند اختلاف الظُّروف. أيضًا نُلاحظ أَنَّ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ عَوْفٍ رضي الله عنه لم يُرِدْ لحُكْمِ شاربِ الخمرِ أَنْ يتعدَّى حكمَ قاذفِ المحصناتِ؛ لأَنَّ الله حدَّدَ الأخيرَ، ولو كان حُكمُ شاربِ الخمرِ أغلظَ لبيَّنه الله تعالى، فلذلك اختار أَنْ يكون -في أقصاه- مشابهًا لحدِّ القذفِ، وأقرَّ ذلك عُمَرُ رضي الله عنه، وفعله في آخر إمرتِه.
أيضًا نجد في روايةٍ أخرى ما يُؤيِّد الاتِّجاه نفسه مِنْ أَنَّ عددَ الجلدات ليس محدَّدًا في السُّنَّة بشكلٍ قطعيٍّ، فعن عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَزْهَرَ رضي الله عنه، قَالَ: كَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَى رَسُولِ اللهِ ﷺ الْآنَ وَهُوَ فِي الرِّحَالِ، يَلْتَمِسُ رَحْلَ خالد بن الوليد رضي الله عنه، فَبَيْنَمَا هُوَ كَذَلِكَ إِذْ أُتِيَ بِرَجُلٍ قَدْ شَرِبَ الْخَمْرَ، فَقَالَ لِلنَّاسِ: «اضْرِبُوهُ»، فَمِنْهُمْ مَنْ ضَرَبَهُ بِالنِّعَالِ، وَمِنْهُمْ مَنْ ضَرَبَهُ بِالْعَصَا، وَمِنْهُمْ مَنْ ضَرَبَهُ بِالْمِيتَخَةِ -قَالَ ابْنُ وَهْبٍ: الْجَرِيدَةُ الرَّطْبَةُ- ثُمَّ أَخَذَ رَسُولُ اللهِ ﷺ تُرَابًا مِنَ الْأَرْضِ فَرَمَى بِهِ فِي وَجْهِهِ. في هذه الرِّواية وجدنا أَنَّ الرَّسول ﷺ قال: «اضْرِبُوهُ»، ولم يُحدِّد عددًا، وكان تصوير عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَزْهَرَ رضي الله عنه كاشفًا أَنَّ الضَّربَ مِنَ الصَّحابةِ لم يكن أصلًا معدودًا لاشتراكِ أكثرِ مِنْ واحدٍ فيه، وبشكلٍ لا يُمكن معه الجزم بعددِ الضَّربات.
مِنْ كُلِّ ما سبق نُدرك أَنَّ عُمَرَ رضي الله عنه لم يُخالِف السُّنَّةِ حين ضَرَبَ بالنِّعال والعصا عددًا قليلًا، وحين ضرب أربعين جلدةً، وكذلك حين ضرب ثمانين؛ فهذه المساحةُ أعطتها إليه الشَّريعةُ، واستشار فيها فقهاءَ المدينةِ، وأشاروا عليه بالرَّأي استنباطًا، ولو كان هناك نصٌّ مِنَ الرَّسولِ ﷺ في ذلك ما خَفِي عليهم؛ لأنَّ إقامةَ الحدودِ تكون في العلنِ، وسيعلمها الأغلبُ حتمًا لو كانت معروفةَ العددِ.
[1] البخاري: كتاب الحدود، باب الضرب بالجريد والنعال، (6397)، والنسائي: السنن الكبرى (5279).
[2] مسلم: كتاب الحدود، باب حد الخمر، (1706)، واللفظ له، والدارمي (2311)، وابن حبان (4450).
التعليقات
إرسال تعليقك