التاريخ الإسلامي
دون تشويه أو تزوير
التاريخ الإسلامي يمتد منذ بداية الدعوة الإسلامية بعد نزول الوحي على رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم تأسيس الدولة الإسلامية بالمدينة المنورة وحكم الخلفاء الراشدين، مرورًا بالدولة الأموية فالدولة العباسية بما تضمنته من إمارات ودول مثل السلاجقة والغزنوية في وسط آسيا والعراق وفي المغرب الأدارسة والمرابطين ثم الموحدين وأخيرًا في مصر الفاطميين والأيوبيين والمماليك ثم سيطرة الدولة العثمانية التي تعتبر آخر خلافة إسلامية على امتداد رقعة جغرافية واسعة، وهذه البوابة تعنى بتوثيق التاريخ من مصادره الصحيحة، بمنهجية علمية، وعرضه في صورة معاصرة دون تشويه أو تزوير، وتحليل أحداثه وربطها بالواقع، واستخراج السنن التي تسهم في بناء المستقبل.
ملخص المقال
تاريخ الإسلام في روما والأملاك البابوية، صفحة مشرقة لا يعرفها الكثير من مطالعي التاريخ الإسلامي، فما حقيقة دفع روما الجزية للمسلمين؟
إنَّ محاولات فتح روما لا يَحْظى بمعرفتها الكثيرُ من مُطالِعي التاريخ الإسلامي، وتَخْفى أخبارُها عن بعض حُذَّاق الباحثين، فَضْلًا عمَّن دونهم في العلم من عُموم المسلمين.
بشارة الفتح
ما أكثر صفحات العِزِّ المَجْهولة في تاريخ الأمة الإسلامية، وما أَحْوَج الأمة الإسلامية إلى إزالة الغُبار عن تلك الصفحات، وإبرازها من خُدورها؛ رَفْعًا للهِمَم، واسْتِلْهامًا لمعاني العِزَّة والشُّمُوخ.
وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنَّ فتح القسطنطينية سيسبق فَتْح روما[1]، وتَلَقَّف كثيرٌ من الخُلفاء، والأمراء، والمـُلوك خَبَر التَّبْشِير بفَتْح المدينتين بنَفْسٍ تَتُوق إلى الفوز بشَرَف وقوع البُشْرى على أيديهم.
وقد تَوالَت مُحاولات فَتْح القسطنطينية في عصر بني أمية، وبني العباس، ثم أَلَحَّ العثمانيون -لقُرب ديارهم منها- على فَتْحها، وراحوا وغَدَوا في غَزْوها، وحِصارها، وفَتْح ما يُحِيط بها من مدن، وحُصون، إلى أن حاز السُّلْطان محمد الثاني، ابن مُراد الثاني رحمه الله تعالى ذلك الشَّرَف، حتى صار يُعْرَف به دون غيره، وأَضْحَى لَقَبُ الفاتح له قرينًا، وأَمْسَتْ صِفَة الفَتْح به لَصِيقة.
ولكن محاولات فتح روما لا يَحْظى بمعرفتها الكثيرُ من مُطالِعي التاريخ الإسلامي، وتَخْفى أخبارُها عن بعض حُذَّاق الباحثين، فَضْلًا عمَّن دونهم في العلم من عُموم المسلمين.
وسوف نُدْلِي في هذه الحلقة بدَلْونا في تعريف المسلمين بتلك الصفحة من صفحات العِزِّ، رَجاءَ أن تكون سببًا في إيقاظ هِمَمٍ، وشَدِّ عَزائِم، ومُداواة ما حَلَّ بالنُّفُوس من هَزائِم.
الأغالبة وغزو روما
لقد قام الأغالبة بحَمْلَة على روما، ودخلوها في (صفر سنة 232هـ= أغسطس 846م)، وكان ذلك في أيام الأمير أبي العباس محمد بن أبي عقال الأَغْلَب السَّعْدِي، رابع أُمراء الأَغالِبة، الذي حكم من سنة 226 إلى سنة 242 هجريًّا[3].
وأسرع البابا بطلب عون بحري من مدن كمبانيا المتحالفة، وكانت هذه فيما يظهر على استعداد للاستجابة لدعوته، فأرسلت أسطولا لحماية الشواطئ البابوية، غير أن عاصفة حطمت السفن الإسلامية قرب أوسيتا، فلم تعد لتلك المساعدة أية ضرورة.
وذكر المسيو رينو[4] أنَّ المسلمين لمـَّا غزوا روما في تلك السنة -أي 846م- صعدوا في نهر الطيبر[5]، ونَهَبوا[6] كنائس القِدِّيسَيْن: بُطْرُس، وبُولُس[7]، وغزوا -أيضًا- جنوى في تلك السنة، وعَطَّلُوا سُدود نَهْرِها، فنَفَر الأهالي، وقاتلوهم، وحَمَل الرُّهْبان، والقِسِّيْسُون السِّلاح[8].
وذكر هنري بيرين[9] أنَّ المسلمين قد حاصروا قلعة القديس آنج في غزاتهم المذكورة على روما، وأضاف ديفز[10] أنَّ المسلمين -الذين أَسْماهم بالقَراصِنة العرب- قد أنزلوا التَّخْريب في العام نفسه بميناء أوستيا، وظاهر كلامه أنَّه قريب من المدينة البابوية بروما؛ لأنَّه قَرَن غزوهما معًا.
غزو سيفيتة فكشيا قرب روما
وكان المسلمون قد غزوا سواحل سيفيتة فكشيا بقرب روما قبل ذلك التاريخ بمدَّة؛ فقد ذكر المسيو رينو[11] أن المسلمين لما غزوا كورسيكة في سنة (813م=198هـ)، وأسروا، وغنموا، أَكْمَن لهم كونت أمبورياس قوةً بحرية بقرب مدينة برينيان في طريق عودتهم، فغَنِمَت منهم ثمانية مراكب، كان فيها أكثر من خمسمائة أسير مسلم، فانتقم المسلمون عن ذلك باجتياح سواحل نيس، وبروفنس، وسيفيتة فكشيا بقرب روما.
والظاهر من كلام رينو أنَّ غَزْو المسلمين لسواحل المدن المذكورة كان بعد التاريخ الذي ذكره -وهو 813م- بفترة قليلة؛ لأنَّه رَتَّب الأحداث على بعضها، وفقًا لرُدود الفِعْل المـُتَتابِعة من قبل المسلمين والنصارى.
ولكن أرشيبالد لويس قد ذكر مسارًا آخر للأحداث، ربط فيه بين الهجوم على المدن الساحلية المذكورة وبين الهجوم على روما في عام 846م، فقال: لمـَّا حِيلَ بين المسلمين وبين ما يَبْتَغون في تلك المنطقة[12]، تَحَوَّلوا إلى أراضي البابوية؛ ففي عام 846م، أنزل المسلمون على السواحل قوات هزمت الحامِيات الموجودة في شيفيتا فكيا، ونوفا أوستيا، وأغارت قواتهم هذه على ضواحي روما ذاتها[13].
قرية قرب روما أصل أهلها عرب مسلمون
قال أميرُ البَيان شكيب أرسلان تعليقًا على خَبَر غزو المسلمين لسواحل نيس، وبروفنس، وسيفيتة فكشيا بقرب روما الذي نقله عن المسيو رينو بقوله[14]: "الذي عَرَفْتُه في روما من روايات بعض أُدَباء الطليان، والمـُطَّلِعِيْن منهم على التواريخ، أنَّه يوجد على مسافة أربعين كيلو متر من رومة قرية، يُقال لها: سراسينشكو، أصل أهلها من المسلمين، كان سَلَفُهم غُزاة، وَقَعوا إلى تلك الأرض، وأحاط بهم الأهالي، فقتلوا جانبًا، واسْتَسْلَم لهم الباقون، وتَنَصَّروا[15]، وعَمَروا تلك القرية، ويُقال: إن سَحَنَهم[16] لا تزال تدل على أصلهم العربي، وأن مآكلهم، ومشاربهم، وصَنْعَة الغِناء عندهم تدل على عُروبتهم، وحتى هذا اليوم تَراني أَتَرَقَّب الفُرصة؛ لمـُشاهدة تلك القرية، والتَنْقيب عن صِحَّة ما سمعته". انتهى[17].
المسلمون وغزو الأملاك البابوية
وقد عانَت الأَمْلاك البابَوِيَّة الأَمَرَّيْن حين ازداد ضَغْط المسلمين على الشاطئ الغَرْبِي لإيطاليا –المـُطِلِّ على البَحْر التيراني- بفِعْل غارات إسلامية حدثت خلال عامي (868م=254هـ)، (872م=258هـ) على مدينتي جايتا وسالرنو، فأرسل البابا حنَّا الثامن إلى مَلِك الفِرَنْجة شارل الثاني، وإلى الإمبراطورية البيزنطية، وإلى مدن: أمالفي، وجايتا، ونابولي، يَلْتَمِس لنفسه ولأَمْلاكه الحِماية، ولكنه لم يَظْفَر إلا بنجاحٍ ضَئيل؛ لأنَّ القسطنطينية لم تطمئن إلى تَقَرُّب البابا من الفرنجة الكارولنجيين، ولأنَّها كانت مَشْغولة بأَمْر صقلية، وبشئون مُمْتلكاتها في بلاد الشَّرْق، وأمَّا الملك شارل الفرنجي؛ فلم يكن لديه أُسْطولٌ يبعث به[18]، وأمَّا حِلْف مُدن كمبانيا؛ فلم يرغب في مُعاداة المسلمين أصدقائه حينئذٍ.
وقد ترتَّب على تَخَلِّي هؤلاء جميعًا عن بابا روما أنَّ مُمْتَلَكات الكَنِيسة في وسط إيطاليا لم تَحْظَ بشيءٍ من السَّكِيْنة، إلَّا بعد أن قام البابا بدَفْع جِزْيَةٍ للمُسْلِمين، قَدْرُها خمسٌ وعشرون ألف (25000) قطعةٍ فِضِّيَّة[19].
محاولة العثمانيين فتح روما
بعد أن فتح الجيش العثماني في عهد السلطان محمد الفاتح رحمه الله تعالى مدينة أوترانت الإيطالية عَنْوَة في شهر أغسطس من سنة (1480م-885هـ)، كان السلطان محمد رحمه الله تعالى ينوي إكمال فتح جميع إيطاليا، ويُقال: إنَّه أقسم بأن يَرْبِط حِصانه في كنيسة القِدِّيْس بُطرس بمدينة روما، ولكن السلطان محمد رحمه الله تعالى تُوفِّي في شهر مايو من العام الذي يليه[20].
__________________
[1] سُئل رسول الله صلى الله عليه وسلم: أيُّ المدينتين تُفتح أوَّلًا: قسطنطينية أو رومية؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "مدينة هرقل تُفْتَح أولًا" يعني قسطنطينية. أخرجه أحمد في مسنده (2/176)، وصَحَّحَه الحاكم، والذهبي، والألباني. انظر: السلسلة الصحيحة (ح4).
[3] انظر: أطلس تاريخ الإسلام لحسين مؤنس (ص180).
[4] انظر: تاريخ غزوات العرب لشكيب أرسلان (ص152-155). وقد ذكر أمير البيان في حاشية (ص155) أنَّ مسيو رينو قد نقل ذلك عن مجموعة البولنديين، وتاريخ مدينة نيس للمسيو لويس دورنت، وفي مخطوط لمؤلف اسمه أغيو فريدو محفوظ في مكتبة تورينو.
[5] وقع في الأصل (الطير)، ونهر التيبر، أو التيفر: هو ثاني أطول نهر في إيطاليا، ويبدأ من سلسلة جبال توسكان ويتدفق جنوبًا لمسافة 405 كم2، وفي نهايته يعبر بمدينة روما، قبل أن يصب في البحر الأبيض المتوسط في منطقة أوستيا، وكان يُعدُّ وسيلة تجارة مهمَّة في العهود الرومانية.
[6] الأولى عند ترجمة العبارات المنقولة عن المستشرقين أن يُراعى اختيار الألفاظ الغير قادحة؛ فالوصف الصحيح لأخذ الأموال، والتحف، وغيرها في مثل تلك الغزوات هو وصف الغنيمة، وهو وصف شرعي لما يغنمه المسلمون في غزوهم لديار الكفار، أما وصف النَّهْب، فيتَعَمَّد المستشرقون استخدامه لغَمْز المسلمين الغُزاة، وتصويرهم على كونهم مجموعة من اللصوص، وقُطَّاع الطرق، مع كونهم يُعَبِّرون عن نهبهم لثروات المسلمين بلفظ الاستعمار - هو طلب عُمْران الأرض وإصلاحها- وهو في حقيقته استخراب، ولا زالوا يُدلِّسون على الناس بوصف نهبهم البغيض لديار الإسلام بألفاظ معسولة، مثل: إعادة الإعمار، ونحوها.
[7] وقد ذكر ديفز في كتابه أوربا في العصور الوسطى ذلك -أيضًا- (ص71).
[8] لاشَكَّ في أنَّ تعويل المستشرقين على المصادر الأوربِّيَّة القديمة -ذات الطابع الكنسي- له دورٌ كبيرٌ في محاولة إضْفاء صفة اللُّصُوصِيَّة على الغزاة المسلمين، والبطولة المزعومة على قساوسة النصارى ورهبانهم.
[9] تاريخ أوربَّا في العصور الوسطى الحياة الاقتصادية والاجتماعية (ص12).
[10] أوربَّا في العصور الوسطى (ص71).
[11] انظر: تاريخ غزوات العرب لشكيب أرسلان (ص141،140).
[12] يقصد بذلك الإشارة إلى هزيمة المسلمين البحرية أمام تحالف مدن: نابولي، وأمالفي، وجايتا، وسرنتو في البحر الأدرياتيكي، والذي أفقدهم السيادة البحرية فيه لفترة من الزمن.
[13] انظر: تاريخ القوى البحرية والتجارية (ص216).
[14] انظر: تاريخ غزوات العرب لشكيب أرسلان حاشية (ص141).
[15] لا يشك عاقل أنَّ ذلك التَنَصُّر -لو صحَّ وقوعه بهذه الصورة- كان تحت وقع الإكراه أخذًا بالرُّخْصة، ولا يُعْقَل أنَّ مجاهدًا مسلمًا يقع في أسر أعدائه، يكون مستعدًّا للتخلِّي عن دينه بمجرد الوقوع في الأسر، إلا على سبيل التقية، والمداراة، ولا ننسى ما كان يفعله النصارى في مُسْلِمي الأندلس؛ لإجبارهم الدخول في النصرانية الكاثوليكية، ولاشَكَّ -أيضًا- أنَّ بقاء الأجيال تلو الأجيال تحت حكم الكفَّار -مع العجز عن الهجرة إلى ديار الإسلام- يئول إلى نُشوء أجيال تتأقلم مع الأوضاع القائمة في البلاد التي نشأت فيها، ويتلاشى مع مرور الوقت استحضار حالة الإكراه، واستصحاب نيَّة الهجرة إلى دار الإسلام، فيصير النسل نصرانيًّا قُحًّا مع تعاقب الأزمان، ولا حول ولا قوَّة إلَّا بالله العلي العظيم.
[16] السَّحْنَةُ، والسَّحْناءُ، بسُكُون الحاء، وتَحْرِيكها في كليهما: لينُ البَشَرَةِ، والنَّعْمَةُ، والهَيْئَةُ، واللَّوْنُ. انظر: تاج العروس (35/173).
[17] وقال في مجلة المنار، عدد شهر المحرم، من عام 1342هـ بعد أن وصف دخول المسلمين لروما بالاجتياح: ورد في التواريخ: إنَّ العرب صعدوا إلى روما من مصب نهر التيبر، واجتاحوا البلدة، وأخذوا من كنيسة مار بطرس تابوتًا من فِضَّة، ولكنَّهم لم يستقرُّوا بروما، ثم إن العرب كانوا يختلفون إلى ضواحي روما، ويَشُنُّون الغارات فيها، وفي إحدى المرار اجتمع عليهم الأهالي، فهزموهم، فخَلُص منهم فئة إلى البحر، وفئة استؤصلت بالسيف، وفئة من بقايا السيوف لاذت بمكان منيع هناك، وناضلت عن نفسها، وبقيت تحمي نفسها، إلى أن وقع الصلح بينها وبين أهل البلاد، ولأسباب مجهولة عندنا تفاصيلها، تركوا تَوَطُّن تلك الأرض، فالآن على مسافة 40 كم2 من روما، قرية اسمها (سارازينسكو) Sarrasinesco، من اسمها يُعرف أنَّ أهلها أصلًا مسلمون؛ لأنَّ (سارازينو) معناه مسلم كما لا يخفى، وليس الدليل على كون أهل هذه القرية عربًا هو الاسم فقط؛ بل حدثني الكونت كولالتو صاحب جريدة روما الإيطالية التي تصدر بالقاهرة -وهو من جِلَّة أُدباء الطليان وفُحول الكتاب- أن أهالي قرية سارازينسكو هم إلى يومنا هذا حافظون عاداتهم العربية، ومآكلهم العربية، ولا يزالون يعزفون بآلات الطرب العربية، ممَّا لا يوجد عند قومٍ سواهم في إيطاليا، وإنَّ سحناتهم إلى هذا اليوم سحنات العرب، لا يتمارى في ذلك من رآهم، انتهى.
[18] تَقَدَّم معنا عند الحديث عن جهود ملوك أوربا لمواجهة الزحف الإسلامي في إيطاليا ما ذكره المسيو رينو من أنَّ الملك شارل الثاني الفرنجي قد نوى أن يذهب بجيش إلى إيطاليا بعد استيلاء الأغالبة على جنوبها، وتَعَرُّض الباباوية في روما للخطر من جَرَّاء ذلك، ولكنَّه تُوفِّي في سنة 876م، ولم يُعَلِّل رينو عدم ذهابه هناك بعدم وجود أسطول لديه.
[19] انظر: تاريخ القوى البحرية والتجارية (ص219). وقد تمَّ التصرف في بعض العبارات التي لا تخلو من النزعة الصليبيَّة في عبارات المؤلِّف المذكور.
[20] انظر: تاريخ الدولة العلية العثمانية (ص176،175).
التعليقات
إرسال تعليقك