الحضارة
سبق وريادة وتجديد
اهتمت الدولة الإسلامية في عهد الخلافة الراشدة والأموية والعباسية بالعلوم والمدنية كما اهتمت بالنواحي الدينية فكانت الحضارة الإسلامية حضارة تمزج بين العقل والروح، فامتازت عن كثير من الحضارات السابقة. فالإسلام دينٌ عالمي يحض على طلب العلم وعمارة الأرض لتنهض أممه وشعوبه، وتنوعت مجالات الفنون والعلوم والعمارة طالما لا تخرج عن نطاق القواعد الإسلامية؛ لأن الحرية الفكرية كانت مقبولة تحت ظلال الإسلام، وامتدت هذه الحضارة القائمة بعدما أصبح لها مصارفها وروافدها لتشع على بلاد الغرب وطرقت أبوابه، وهذه البوابة تبرز إسهامات المسلمين في مجالات الحياة الإنسانية والاجتماعية والبيئية، خلال تاريخهم الطويل، وعصورهم المتلاحقة.
ملخص المقال
شهد البحث العربي في تاريخ العثمانيين تطوُّرًا منذ مطلع القرن العشرين، مع ظهور تباين في نظرة المؤرخين إلى الدولة العثمانية وكان لذلك آثار واضحة في
العثمانيون في نظر ابن خلدون وابن تغري بردي
في (مطلع القرن التاسع الهجري= ونهاية القرن الرابع عشر الميلادي)، قام الفقيه ابن خلدون بتحذير السلطان المملوكي برقوق من عواقب قبول التحالف مع العثمانيِّين، مردِّدًا قولته الشهيرة: "لا تخشوا على ملك مصر إلَّا من أولاد عثمان".
ووحَّده المؤرِّخ ابن تغرِّي بردي المثقَّف بحسِّه العالي، الذي دعا الى تحالفٍ عثمانيٍّ مملوكيٍّ ضدَّ تيمورلنك، غير أنَّه في ظلِّ حال الالتباس والتوجُّس، تم تجاهل رأيه، ممَّا أدَّى في النهاية إلى تحقيق نبوءة المثقَّف، فاجتاح المغول أراضي المماليك والعثمانيِّين في الشام والأناضول.
وفي تصوُّري أنَّه لابُدَّ من النظر أولًا في العلاقة المبكرة بين العثمانيين والعالم العربي تحت حكم المماليك، من أجل المساعدة على تفسير واستجلاء بدايات الموقف السلبي للمؤرِّخ العربي تجاه الدولة العثمانية؛ فقد حفلت المصادر التاريخيَّة العربيَّة في مصر والشام، بحالٍ من التوجُّس والعداء للعثمانيِّين.
المؤرخون العرب وتاريخ العثمانيين
وحينما تناول المؤرِّخون العرب -ربَّما لثلاثة أرباع القرن العشرين- تاريخ الدولة العثمانية وعلاقاتها بالعالم العربي، ظلَّ بعضهم أسرى لنظرة المصادر المملوكية للغزاة العثمانيِّين، بينما اعتبر البعض الآخر أنَّ الأتراك العثمانيِّين الغزاة ما هم إلَّا امتداد للأتراك المماليك المحتلِّين للأراضي العربية في مصر والشام.
بينما تأثَّر معظم المؤرِّخين العرب بالمدارس التاريخيَّة الأوربِّيَّة الاستشراقيَّة؛ حيث كان من الطبيعي أن ينظر المؤرخون الأوربِّيُّون إلى الدولة العثمانيَّة نظرةً سلبيَّةً لأسبابٍ عدَّة؛ أهمُّها إسلاميَّة الدولة، وانقضاضها على أراضي البلقان المسيحية، قبل إسقاطها لمدينة القسطنطينيَّة عاصمة المسيحية الأرثوذكسية في العصور الوسطى، ومحاولة العثمانيِّين إسقاط مدينة فيينا، ثُمَّ قيامهم بضمِّ معظم البلاد العربيَّة تحت راية الخلافة العثمانيَّة الإسلامية، كذلك فضلًا عن وقوف العثمانيِّين في وجه الهجمة الاستعماريَّة الأوربِّيَّة التي هدفت إلى تقسيم العالم العربي.
واستقى الباحثون الأوربِّيُّون معلوماتهم عن التاريخ العثماني من تقارير وكتب القناصل الأجانب والرحَّالة، وهي مصادر تاريخيَّة سطحيَّة وثانويَّة، فضلًا عن كونها تُعبِّر عن آراء الموظَّفين الأوربِّيِّين التابعين لدول محكومة بعدائها للعثمانيِّين ورغبتها في التوسُّع على حساب الدول العربية.
ولعلَّه كان من الطبيعي أن يترسَّم المؤرِّخون العرب خطى المؤرِّخين الغربيِّين نتيجةُ للبعثات العلميَّة
إلى أوربَّا، فضلًا عن فقر المدرسة التاريخيَّة العربية آنذاك، في مقابل تقدُّم مناهج البحث في أوربَّا، وتوظيفها لأجل المشروع الاستشراقي.
كما لا يُمكن إغفال حقيقة تنامي الشعور العربي، والظهور المبكِّر لفكرة القوميَّة العربيَّة؛ حيث عانى المؤرِّخون العرب من سطوة "الإيديولوجيا" مع فقر المعرفة التاريخيَّة الحقَّة عن العثمانيِّين، فراحوا يُهاجمون تاريخ الدولة العثمانيَّة، والحكم العسكري العـثماني للعالم العربي.
وهنا يجدر التذكير أنَّ المؤرِّخ الحقيقي يختلف عن الإيديولوجي الذي يقوم بالتنظير والدعوة لفكرة معينة؛ فإنَّ المؤرخ لا يجب أن تحكمه الاعتبارات الفكريَّة؛ إذ إنَّ ميدان عمله الحقيقي هو الدراسة المتأنِّية والصارمة للحدث التاريخي.
وهكذا خلط المؤرِّخ العربي -منذ أوائل القرن العشرين- بين دوره التاريخي كمؤرِّخ محايد، وبين دور المفكر المتطلِّع الى الدفاع عن الفكرة القوميَّة العربيَّة؛ حيث سمح لنصفه الثاني أن يطغى على الأوَّل، الأمر الذي أسهم في تكريس خلق صورةٍ سلبيَّةٍ عن الدولة العثمانيَّة في العالم العربي.
وإذا كان معظم المؤرِّخين العرب آنذاك قد سقطوا في فخ "الإيديولوجيَّة" على هذا النحو، فينبغي الإشارة الى أنَّ بعضهم مارس الفعل نفسه من زاويةٍ أخرى، عبر التأثُّر بالمؤثِّرات الدينيَّة، فلجأ بعض المؤرِّخين إلى النظر إلى الدولة العثمانيَّة باعتبارها دولة الخلافة الإسلامية التي أعادت إلى الحياة الحنين إلى فترة المدِّ الإسلامي الأوَّل، والخلافات الإسلاميَّة المتعاقبة، فلجأ هؤلاء إلى تناول التاريخ العثماني بعبارةٍ ملؤها المديح والاستحسان، ممَّا أسهم في صوغ صورةٍ إيجابيَّةٍ ذات خلفيَّةٍ دينية وغير موضوعيَّة بالضرورة عن العثمانيِّين.
ومن المثير أنَّ ذلك حدث -أيضًا- في الوقت نفسه الذي هاجم المؤرِّخون الأتراك في تركيا الكماليَّة -مسلَّحين بأفكارهم العلمانيَّة الجديدة- الدولةَ العثمانيَّة وصبغتها الإسلامية، ممَّا أدَّى إلى ابتعادهم -أيضًا- عن التأريخ الموضوعي للدولة العثمانيَّة.
ويرى رءوف عبَّاس أنَّ ثَمَّة أسبابًا أكاديميَّةً محضة أسهمت -أيضًا- في إغفال دراسة الفترة العثمانية في مصر والشام، ويُعزَى ذلك بسبب وقوع الفترة العثمانية العربية في مسافةٍ زمنيَّةٍ تقع على تخوم العصور الوسطى والتاريخ الحديث، فاعتبر دارسو العصور الوسطى أنَّ مجال بحثهم ينتهي عند سقوط دولة المماليك الثانية (1517م=923هـ)، بينما اعتقد دارسو التاريخ الحديث أنَّ ميدان بحثهم يبدأ حيث وصلت الحملة الفرنسية على مصر (1789م=1203هـ)، وهكذا شُغِل معظم المؤرِّخين بدراسة الفترة المملوكية الثَّريَّة بأحداثها، وكذلك بدراسة النهضة المصريَّة في عهد محمد علي وتداعياتها، عن الاهتمام بدراسة تـاريخ مصر في العـصر العـثماني.
الجدِّيَّة في دراسة التاريخ العثماني
وبعيدًا من نزعات التحرُّر القوميَّة العربيَّة، وغيرها من الأفكار التي يُمكن أن تُسهم بإسقاطاتها في تفسير الأحداث التاريخيَّة في شكلٍ متعسِّف، بدأ جمعٌ من المؤرِّخين المصريِّين في تناول تاريخ بلادهم تحت الحكم العثماني في شكلٍ يتَّصف بالجدِّيَّة والصَّرامة العلميَّة، وبعد أن كان المؤرِّخون الأوربِّيُّون يعتمدون في تأريخهم للدولة العثمانية على مصادر تاريخيَّة ثانويَّة، وضع المؤرِّخون المصريُّون تلك المصادر في حجمها الطبيعي الذي لا يسمح لها بحيِّزٍ علميٍّ كبير، وحدثت نقلةٌ نوعيَّةٌ في مناهج البحث التاريخي، فبدأ الاعتماد على الوثائق العثمانيَّة والسجلَّات العربيَّة الموثَّقة، التي سجَّلت -في شكلٍ دقيقٍ للغاية- تفاصيل الحياة الاجتماعية والاقتصادية والفكريَّة في مصر العثمانيَّة.
وبدأ الباحثون المصريُّون في التاريخ العثماني -منذ العام (1970م=1390هـ) تقريبًا- في استخدام أساليب ومناهج بحثيَّة جديدة، وهكذا اعتُمِدَ في شكلٍ واسعٍ على المخطوطات والوثائق، وعلى سجلَّات المحاكم الشرعيَّة، وحجج الأوقاف والدفاتر الماليَّة، وسجلَّات الموانئ، وسجلَّات الروزنامة، فضلًا عن العقود التجاريَّة المحفوظة كلها، ولجميع تلك المصادر التاريخيَّة أهميَّةٌ قصوى؛ فهي تُسجِّل حياة المصريِّين في شكلٍ يوميٍّ تحت الحكم العثماني.
وفضلًا عن ذلك جرى الاعتماد في شكلٍ كبيرٍ على وثائق الأرشيف العثماني بإسطنبول، الذي احتوى على آلاف الوثائق الخاصَّة بولاية مصر العثمانية.
وأدَّى التمكُّن من المصادر التاريخيَّة الأصليَّة والأوَّليَّة، واستخدام مناهج البحث التاريخي الحديثة إلى توسيع أطر البحث في التاريخ العثماني كلِّه، ممَّا سمح بإعادة النظر في الفكرة السلبيَّة السائدة عن العثمانيين، وكذلك إلى تصحيح الأفكار التي سبق ترويجها من قَبْل حول التاريخ العثماني.
وهكذا نجحت الدراسات التاريخيَّة المصريَّة الحديثة في إزالـة الغـبـار عـن حـقـيـقـة الـواقـع الاجتماعي والاقتصادي والثقافي لمصر تحت الحكم العثماني، ممَّا أسهم في إعادة النظر، بل ودحض فكرة تخلُّف العثمانيِّين ومصر تحت الحكم العثماني.
ولعلَّ أعمال أحمد عبد الرحيم مصطفى وعبد الرحيم عبد الرحمن ورءوف عبَّاس، وكذلك محمد عفيفي، ثم نيللي حنَّا بدراساتها المميَّزة عن التجَّار في مصر، وثقافة الطبقة المتوسِّطة في مصر العثمانية- هي علامات بارزة في طريق التناول الجادِّ والموضوعيِّ لتاريخ العثمانيِّين ومصر، بعيدًا عن الأفكار الكلاسيكيَّة التي روَّجها الاستشراق الأوربِّي عن الفترة العثمانيَّة بكاملها.
_______________________
المصدر: عين للدراسات والبحوث الإنسانيَّة والاجتماعيَّة، أغسطس 2014م.
التعليقات
إرسال تعليقك