ملخص المقال
ماذا تعرف عن لغز عالم إيران الذي أسس أكبر مرصد في العالم؟
أحيانًا يتحرج بعض المسلمين من فتح نافذة حضارة علمية على مشروع قام به رجل أو مجموعة مخالفين لهم عقائديًّا، فيتحرج مثلًا من مدح طبيب نصراني أو يهودي عمل في الحضارة الإسلامية، أو إسماعيلي، أو شيعي، أو صاحب عقائد منحرفة أثرى فرعًا معيَّنًا من فروع العلم الحياتي كالجغرافيا أو الفلك. يتحرَّج هؤلاء من مدحهم لكونهم يظنون أنهم يمدحون عقائدهم بشكل غير مباشر.
ولكن واقع الأمر غير ذلك:
أولًا: لابد أن يُنْسَب الفضل لأهل الفضل، وقد صرَّح الرسول صلى الله عليه وسلم أنه كان على استعداد أن يهب أسرى بدر للمطعم بن عدي لو كان حيًّا، نظرًا لمروءته مع المسلمين على الرغم من كونه كافرًا.
ثانيًا: من الشفافية عدم تجاهل جهود الجميع، ولو تجاهلناهم وتجاهلونا حدثت ثغرة كبيرة في البحث العلمي.
ثالثًا: واقع الأمر أن جهود هؤلاء هي ثمرة للحضارة الإسلامية ككل، ولولا تكامل الحضارة الإسلامية ما استطاع هؤلاء أن يحقّقوا هذه النتائج، ونحن نعترف بذلك عندما نرى مسلمًا ينبغ في الغرب، فلولا المنظومة العلمية التي حوله ما نبغ فيما تخصَّص فيه.
وبين أيدينا مثال صريح على ذلك، وهي نافذة اليوم، ونفتحها على مرصد فلكي متطور عظيم في مدينة مراغة الإيرانية، وقد أسَّسه الطوسي، وهو من عباقرة الفلك المعدودين، وكان إسماعيليًّا، ثم تحوَّل إلى الاثنا عشرية، وكان متعاونًا مع التتار، لكن كل هذا لا يلغي جهده البارز في بناء هذا المرصد.
تقع مدينة مراغة الإيرانية شمال غرب إيران، قريبًا من حدود العراق وتركيا في الغرب وأذربيجان وأرمينيا في الشمال، على بعد 130 كم جنوب تبريز. وبها آثار كثيرة أهمها المرصد الفلكي الذي نعنيه.
مؤسِّس هذا المرصد هو نَصِيرُ الدِّينِ الطُّوسِيُّ (597-672هـ/1201-1274م) كان رأسًا في العلوم العقلية، علاَّمة بالأرصاد والرياضيات. ولد بطوس (قرب نيسابور).
أعجبني جدًّا تعليق ابن كثير عليه في ترجمته بالبداية والنهاية إذ قال: "حَصَّلَ عِلْمَ الْأَوَائِلِ جَيِّدًا، وَصَنَّفَ فِي ذَلِكَ فِي عِلْمِ الْكَلَامِ، وَشَرَحَ " الْإِشَارَاتِ " لِابْنِ سِينَا، وَوَزَرَ لِأَصْحَابِ قِلَاعِ الْأَلَمُوتِ مِنَ الْإِسْمَاعِيلِيَّةِ، ثُمَّ وَزَرَ لِهُولَاكُو، وَكَانَ مَعَهُ فِي وَاقِعَةِ بَغْدَادَ، وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَزْعُمُ أَنَّهُ أَشَارَ عَلَى هُولَاكُو بِأَنْ يَقْتُلَ الْخَلِيفَةَ، فَاللَّهُ أَعْلَمُ، وَعِنْدِي أَنَّ هَذَا لَا يَصْدُرُ مِنْ فَاضِلٍ وَلَا عَاقِلٍ. وَقَدْ ذَكَرَهُ بَعْضُ الْبَغَادِدَةِ، فَأَثْنَى عَلَيْهِ وَقَالَ: كَانَ عَاقِلًا فَاضِلًا، كَرِيمَ الْأَخْلَاقِ. وَهُوَ الَّذِي كَانَ قَدْ بَنَى الرَّصَدَ بِمَرَاغَةَ، وَرَتَّبَ فِيهِ الْحُكَمَاءَ مِنَ الْفَلَاسِفَةِ وَالْمُتَكَلِّمِينَ وَالْفُقَهَاءِ وَالْمُحَدِّثِينَ وَالْأَطِبَّاءِ وَغَيْرِهِمْ مِنْ أَنْوَاعِ الْفُضَلَاءِ، وَبَنَى لَهُ فِيهِ قُبَّةً عَظِيمَةً، وَجَعَلَ فِيهِ كُتُبًا كَثِيرَةً جِدًّا، تُوُفِّيَ بِبَغْدَادَ فِي ثَانِي عَشَرَ ذِي الْحِجَّةِ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ (662ه)، وَلَهُ خَمْسٌ وَسَبْعُونَ سَنَةً، وَلَهُ شِعْرٌ جَيِّدٌ قَوِيٌّ، وَأَصْلُ اشْتِغَالِهِ عَلَى الْمُعِينِ سَالِمِ بْنِ بَدْرَانَ الْمِصْرِيِّ الْمُعْتَزِلِيِّ الْمُتَشَيِّعِ، فَنَزَعَ فِيهِ عُرُوقٌ كَثِيرَةٌ مِنْهُ، حَتَّى فَسَدَ اعْتِقَادُهُ»[1].
يمدح ابن كثير هنا علمه العقلي والحياتي، وفي الوقت نفسه يشير إلى فساد اعتقاده. ومثله قال الصفدي: «صَاحب عُلُوم الرياضي والرصد، كَانَ رَأْسا فِي علم الْأَوَائِل لَا سِيمَا فِي الأرصاد والمجّسطي فَأَنَّهُ فاق الْكِبَار.. وَكَانَ ذَا حُرْمَة وافرة ومنزلة عالية عِنْد هولاكو وَكَانَ يطيعه فِيمَا يُشِير بِهِ عَلَيْهِ وَالْأَمْوَال فِي تصريفه فابتنى بِمَدِينَة مراغة قبّة ورصدًا عَظِيمًا وَاتخذ فِي ذَلِك خزانَة عَظِيمَة فسيحة الأرجاء وملأها من الْكتب الَّتِي نهبت من بَغْدَاد وَالشَّام والجزيرة حَتَّى تجمّع فِيهَا زِيَادَة على أَربع مائَة ألف مُجَلد.. وَكَانَ حسن الصُّورَة سَمحا كَرِيمًا جوادا حَلِيمًا حسن الْعشْرَة غزير الْفَضَائِل جليل الْقدر داهية»[2].
مرصد مراغة
أُنشأ سنة 657هـ/1259م من أموال الأوقاف، واستمر بناؤه أربع سنوات
كان يتكون من منظومة أبنية على مساحة 6 آلاف متر
للمرصد مظاهر حضارية لافتة:
1- ضم المرصد مكتبةً علمية متخصصة احتوت نحو أربعين ألف كتاب (تأصيل علمي)
2- حُشد له أفضل ما عرفه العصر من آلات القياس الفلكية،
3- طوَّر الآلات المعاصرة وابتكر آلات جديدة،
4- ضمَّ أيضًا مسبكة لصنع آلات القياس النحاسية. (كفاية ذاتية من الآلات)
5- كانت هناك رؤية واضحة زمنية لخطة العمل: كانت خطة العمل المبدئية للأرصاد 30 عامًا، لكنها اختصرت إلى 12 عامًا هي دورة المشتري.
6- قدَّم المرصد الزيج الإلخاني: والزيج كلمة فارسية يقصد بها قانون حركة الكواكب والنجوم، وهو عبارة عن معلومات عن حركة الكواكب يجمعها العلماء في جداول منظمة، وفيها تسجيل لمنازل القمر، وحركة الشمس، وغير ذلك من الظواهر الفلكية.
7- تمازج حضاري رائع: أداره نصير الدين الطوسي إلى جانب عدد كبير من علماء الفلك ومصمِّمي الآلات الفلكية، وقد التقى فيه علماء من الأندلس ومصر وآسيا الصغرى، كما كان به علماء من الصين يقدمون معارفهم في الطرق الصينية لحساب الأعياد.
8- تتلمذ فيه أكثر من مائة طالب لدراسة الفلك (توريث العلم)
9- من الرائع في المرصد أيضًا أنه لم يهمل دراسات الأولين من اليونانيين والهنود، إنما جمعها، وعلَّق عليها، وأيَّد بعضها، وعارض الأخرى، واستطاع تكوين مدرسة مستقلة مفهومة يمكن لبقية العلماء السير على خطاها وفق منهج علمي رصين ثابت.
10- لم يهتز المرصد أمام الأسماء الكبرى، فانتقدوا بطليموس بشدة، وكذلك أرسطو، حتى اعتبر علماء الفلك في التاريخ أن ما فعله علماء مراغة هو ثورة علمية حقيقية قبل الثورة العلمية في أوروبا بقرنين من الزمن.
11- أهم إنجازات المرصد أنه ابتعد عن الفرضيات النظرية، واعتمد الرصد والتجربة، وعبَّر عن الظواهر الفلكية بمعادلات رياضية، وقدَّم أول دليل تجريبي على دوران الأرض حول محورها.
ظل المرصد يعمل نحو خمسين عامًا، وارتبط تاريخه بعلماء كبار منهم: محيي الدين المغربي، وقطب الدين شيرازي[3].
[1] البداية والنهاية ط هجر (17/ 514).
[2] الوافي بالوفيات (1/ 147) [وحكى عنه قصص مع هولاكو في دلالة على نباهته وحجته].
[3] لمشاهدة الحلقة على اليوتيوب اضغط هنا
التعليقات
إرسال تعليقك