الحضارة
سبق وريادة وتجديد
اهتمت الدولة الإسلامية في عهد الخلافة الراشدة والأموية والعباسية بالعلوم والمدنية كما اهتمت بالنواحي الدينية فكانت الحضارة الإسلامية حضارة تمزج بين العقل والروح، فامتازت عن كثير من الحضارات السابقة. فالإسلام دينٌ عالمي يحض على طلب العلم وعمارة الأرض لتنهض أممه وشعوبه، وتنوعت مجالات الفنون والعلوم والعمارة طالما لا تخرج عن نطاق القواعد الإسلامية؛ لأن الحرية الفكرية كانت مقبولة تحت ظلال الإسلام، وامتدت هذه الحضارة القائمة بعدما أصبح لها مصارفها وروافدها لتشع على بلاد الغرب وطرقت أبوابه، وهذه البوابة تبرز إسهامات المسلمين في مجالات الحياة الإنسانية والاجتماعية والبيئية، خلال تاريخهم الطويل، وعصورهم المتلاحقة.
ملخص المقال
أُنشأ الجامع المنصوري الكبير لتخليد ذكرى النصر على الصليبيين، وهو تجسيد لرحلة طويلة من الجهاد أنفق فيها كثير من الأبطال أوقاتهم وأموالهم وحياتهم.
نافذة اليوم نفتحها على مدينة لبنانية عريقة، والكثير من مدن لبنان، وعموم الشام، مدن عريقة لها ماضٍ طويل، ومن هذه المدن طرابلس، وهي المدينة الثانية بعد بيروت، وعمرها يصل إلى 3500 عام، طرابلس ذات موقع جغرافي مميز؛ لأنها تصل ما بين الشاطئ الشرقي للبحر الأبيض المتوسط والداخل السوري والعربي، مما جعلها مركزًا تجاريًا مهمًّا.
هذه الأهمية الاستراتيجية جعلتها محطة مهمة عند الحضارات المختلفة، فكانت من أهم الموانئ عند البيزنطيين، وفتحها معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنهما سنة 17هـ= 638م، وظلَّت تحت حكم الدول الإسلامية المختلفة حتى سقطت تحت الحكم الصليبي عام 503هـ= 1109م، ولأهميتها صارت بها إمارة مستقلَّة، ويتبعها عدد كبير من مدن الساحل الشامي، وقد ظلَّت محتلة 185 سنة هجرية حيث تحرَّرت على يد المنصور قلاوون المملوكي عام 689 هجرية= 1289م.
نافذة اليوم نفتحها على معلم حضاري مهم في المدينة، بل هو أهمُّ ملامحها الحضارية، وهو المسجد المنصوري الكبير، ومؤسس هذا المسجد هو الأَشْرَف صلاح الدين خليل ابن قَلاوُون (حكم من 689-693هـ=1290-1294م)، وهو من كبار المجاهدين، وكتب الله على يديه الاستخلاص الكامل للأراضي الإسلامية من الصليبيين، فحرَّر عكا، وصور، وصيدا، وبيروت، وقلعة الروم، وبيسان، وجميع الساحل، وتوغل في الداخل.
في نهاية حملته لتحرير الساحل الشامي عام 693هـ دخل مدينة طرابلس التي كان أبوه المنصور قلاوون قد حرَّرها منذ 4 سنوات (عام 689هـ)، وسأل عن مكان الخيمة التي عسكر فيها أبوه عند فتح المدينة، وفي مكانها أنشأ المسجد الكبير، وكان بالمكان أيضًا أنقاض كنيسة هدمت أثناء قصف المماليك للمدينة.
في هذا المسجد نلمس عدة ملامح حضارية مهمة:
أولًا: هذا المسجد الذي أُنشأ لتخليد ذكرى النصر على الصليبيين هو تجسيد لرحلة طويلة من الجهاد أنفق فيها كثير من الأبطال أوقاتهم، وأموالهم، بل وحياتهم، لكي نصل إلى هذه النقطة. البعض يقولون نجح المنصور قلاوون، والأشرف خليل، فيما فشل فيه صلاح الدين ونور الدين، ولكني أقول إنه بناء ضخم أضاف فيه كل واحد من هؤلاء حجرًا حتى تكامل، ولولا جهود عماد الدين زنكي، وابنه نور الدين، وصلاح الدين، والأمراء والجنود، ما وصل المنصور قلاوون أو ابنه لما وصلوا إليه. رؤية هذا الملمح الحضاري الكبير توضِّح قيمة العمل الجماعي المتراكم عبر السنين.
ثانيًا: جميل أن نرى المسلمين عندما يريدون تخليد ذكرى يقومون ببناء مسجد. هو يشبه من وجه ما يفعله الناس من بناء نصب تذكاري، ولكن شتَّان بين تأسيس عمود من الحجارة مهما كان فخمًا، وتأسيس بيت لله شكرًا له على تحقيق النصر. هذا متكرِّر في الحضارة الإسلامية، وهو دليل على إسلامية الحرب، وكونها كانت في سبيل الله.
ثالثًا: من الملامح الحضارية المهمة في المسجد أن المؤسس سمَّاه على اسم أبيه فاتح المدينة، ولم يُسمِّه على اسمه هو، وفي هذا تواضع جمٌّ، وفيه برٌّ بالوالد، وفيه نسب الفضل لأهله، وهي معان حضارية راقية ينبغي أن تُتَذكَّر. أيضًا يضاف إلى هذا، وفي المعنى نفسه، نجد السلطان الشهير الناصر محمد بن قلاوون لاحقًا يزيد في مساحة المسجد عام 715 هـ بدلًا من إنشاء مسجد خاص به، وهو استكمال لمسيرة التواضع للوالد، ولو مرَّ على موته عقود.
رابعًا: الملمح الحضاري الفني في البناء: هذا هو الجامع الأكبر في طرابلس. تبلغ مساحته 3000 متر مربع، ومساحة حَرَمه 1630 مترًا مربعًا. ويتميز بتصاميمه المعمارية التي تمزج بين الفنون الإسلامية والرومانية، وبه نوافذ ذات قناطر رخامية منحوتة ومزينة بأجمل النقوش. وتتزين جدرانه بالمنحوتات والنقوش والآيات القرآنية المكتوبة بالخط النسخي المملوكي، وعلى الجدران زخارف الفسيفساء الجميلة، والآيات القرآنية المكتوبة بأجمل الخطوط العربية التي تتزين بها القبة الداخلية، وبمحرابه المصنوع بأجمل فنون النحت الصخري.
خامسًا: الملمح الأخير الذي نلفت الانتباه إليه هو تعظيم المسلمين لآثار النبي، فالمسجد يحتوي على غرفة أنشئت عام 1890 بها شعرتان للنبي محفوظتان في علبة من الذهب الخالص، وهاتان الشعرتان تلقيان الترحيب والإجلال في مواعيد معينة في السنة؛ في صبح ليلة القدر، وفي الجمعة الأخيرة من رمضان، وقد أهدى السلطان عبد الحميد الثاني هاتين الشعرتين لأهل طرابلس جزاءً لهم على دعمه في السلطنة.
هناك العديد من شعرات النبي موجودة في متاحف ومساجد في أماكن متفرقة من العالم الإسلامي؛ في لبنان، وسوريا، ومصر، وتركيا، وليبيا، وفلسطين، وغيرها.
جميل أن نرى هذا التوقير لآثار النبي من السلطان عبد الحميد، ومن سلاطين الدولة العثمانية بشكل عام، ومن أهل طرابلس، ومن المسلمين عمومًا، وهذا التوقير كنا نراه من الصحابة لبعض آثار النبي.
وأصل معظم هذه الشعرات على الأغلب ما حدث في حجة الوداع؛ فقد روى مسلم عَنْ أَنَسٍ، قَالَ: لَقَدْ «رَأَيْتُ رَسُولَ اللهِ r وَالْحَلَّاقُ يَحْلِقُهُ، وَأَطَافَ بِهِ أَصْحَابُهُ، فَمَا يُرِيدُونَ أَنْ تَقَعَ شَعْرَةٌ إِلَّا فِي يَدِ رَجُلٍ».
قال النووي: "وفيه التبرك بآثار الصالحين، وبيان ما كانت الصحابة عليه من التبرك بآثاره، وتبركهم بشعره الكريم، وإكرامهم إياه أن يقع شيء منه إلا في يد رجل سبق إليه".
وعند مسلم أن الرسول آثر أبا طلحة الأنصاري بنصف شعره؛ فقد روى مسلم عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ: "أَنَّ رَسُولَ اللهِ رَمَى جَمْرَةَ الْعَقَبَةِ، ثُمَّ انْصَرَفَ إِلَى الْبُدْنِ فَنَحَرَهَا وَالْحَجَّامُ جَالِسٌ، وَقَالَ: بِيَدِهِ عَنْ رَأْسِهِ، فَحَلَقَ شِقَّهُ الْأَيْمَنَ فَقَسَمَهُ فِيمَنْ يَلِيهِ"، ثُمَّ قَالَ: «احْلِقِ الشِّقَّ الْآخَرَ» فَقَالَ: «أَيْنَ أَبُو طَلْحَةَ؟ فَأَعْطَاهُ إِيَّاهُ».
وعند الحاكم، والطبراني، وأبي يعلى، عن جَعْفَر بن عبد الله أَنَّ خَالِدَ بْنَ الْوَلِيدِ فَقَدَ قَلَنْسُوَةً لَهُ يَوْمَ الْيَرْمُوكِ، فَقَالَ: اطْلُبُوهَا فَلَمْ يَجِدُوها، فَقَالَ: اطْلُبُوهَا، فَوَجَدُوهَا فَإِذَا هِي قَلَنْسُوَةٌ خَلَقَةٌ، فَقَالَ خَالِدٌ: «اعْتَمَرَ رَسُولُ اللهِ r فَحَلَقَ رَأْسَهُ، فَابْتَدَرَ النَّاسُ جَوَانِبَ شَعْرِهِ، فَسَبَقْتُهُمْ إِلَى نَاصِيَتِهِ فَجَعَلْتُهَا فِي هَذِهِ الْقَلَنْسُوَةِ، فَلَمْ أَشْهَدْ قِتَالًا وَهِيَ مَعِي إِلَّا رُزِقْتُ النَّصْرَ».
وجعفر بن عبد الله من نبلاء التابعين قد لا يكون سمع من خالد، فالرواية قد تكون منقطعة، ولكنه سمع من عدد من الصحابة؛ منهم أنس بن مالك، وعقبة بن عامر[1].
[1] لمشاهدة الحلقة على اليوتيوب اضغط هنا
التعليقات
إرسال تعليقك