التاريخ الإسلامي
دون تشويه أو تزوير
التاريخ الإسلامي يمتد منذ بداية الدعوة الإسلامية بعد نزول الوحي على رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم تأسيس الدولة الإسلامية بالمدينة المنورة وحكم الخلفاء الراشدين، مرورًا بالدولة الأموية فالدولة العباسية بما تضمنته من إمارات ودول مثل السلاجقة والغزنوية في وسط آسيا والعراق وفي المغرب الأدارسة والمرابطين ثم الموحدين وأخيرًا في مصر الفاطميين والأيوبيين والمماليك ثم سيطرة الدولة العثمانية التي تعتبر آخر خلافة إسلامية على امتداد رقعة جغرافية واسعة، وهذه البوابة تعنى بتوثيق التاريخ من مصادره الصحيحة، بمنهجية علمية، وعرضه في صورة معاصرة دون تشويه أو تزوير، وتحليل أحداثه وربطها بالواقع، واستخراج السنن التي تسهم في بناء المستقبل.
ملخص المقال
قتل أبو لؤلؤة المجوسي عمرَ بنَ الخطاب رضي الله عنه بخنجر، وقتل معه سبعةً من المسلمين، وأصاب ستَّة، ثم قَتَلَ نفسه.
قتل أبو لؤلؤة المجوسي عمر بن الخطاب رضي الله عنه بخنجر، وقتل معه سبعةً من المسلمين، وأصاب ستَّة، ثم قَتَلَ نفسه. كان من المحتمل أن يكون هذا الحادث أمرًا فرديًّا أو يكون جزءًا من مؤامرةٍ شارك فيها آخرون. كان عمر رضي الله عنه نفسه متخوِّفًا من ذلك، وقد ورد أنه سأل ابن عباس رضي الله عنهما أن يتقصَّى الأمر فقال له: «أَحَبُّ أَنْ تَعْلَمَ: عَنْ مَلَأٍ مِنَ النَّاسِ كَانَ هَذَا؟»[1].
بعد طَعْنِ عمر رضي الله عنه، وقبل أن يموت، جاء عبد الرحمن بن أبي بكر رضي الله عنهما بخبرٍ حَدَثَ قبل مقتل عمر رضي الله عنه بعدَّة أيام، وقد أصاب هذا الخبر القومَ باضطراب! عن سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ أَنَّ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ رضي الله عنهما قَالَ حِينَ قُتِلَ عُمَرُ رضي الله عنه: قَدْ مَرَرْتُ عَلَى أَبِي لُؤْلُؤَةَ قَاتَلِ عُمَرَ رضي الله عنه، وَمَعَهُ جُفَيْنَةُ (غلام نصراني لسعد بن أبي وقَّاص رضي الله عنه)، والهرمزان، وهم نجي، فَلَمَّا بَغَتُّهُمْ ثَارُوا فَسَقَطَ مِنْ بَيْنِهِمْ خِنْجَرٌ لَهُ رَأْسَانِ وَنِصَابُهُ وَسَطُهُ، فَانْظُرُوا مَا الْخِنْجَرُ الَّذِي قُتِلَ بِهِ عُمَرُ رضي الله عنه، فَوَجَدُوهُ الْخِنْجَرَ الَّذِي نَعَتَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ رضي الله عنهما، فَانْطَلَقَ عُبَيْدُ اللهِ بْنُ عُمَرَ رضي الله عنهما حِينَ سَمِعَ ذَلِكَ مِنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ رضي الله عنهما وَمَعَهُ السَّيْفُ..»[2].
تُكْمِل رواية سعيد بن المسيب، وروايات أخرى، القصَّة، فيُذكر أنَّ عبيد الله رضي الله عنه قَتَلَ الهرمزان، (وقيل قتل جُفينة، وكذلك جاريةً نصرانيَّة، أو ابنة للهرمزان، ولا يصح)، في فترة الأيَّام الثلاثة التي اجتمع فيها مجلس الشورى، وكان عبيد الله رضي الله عنه ثائرًا بشدَّة لقتل أبيه، وهدَّد بقتل كلِّ الفرس بالمدينة، وقتل مَنْ يدافع عنهم، وقد تمكَّن المسلمون من السيطرة عليه بصعوبة، وحبسوه في بيت سعد بن أبي وقَّاص رضي الله عنه إلى أن يقضي الخليفة الجديد في أمره[3].
كان الموقف شائكًا للغاية؛ فقَتْلُ الهرمزان حدثٌ بلا محاكمة، وقام على الشَّكِّ، وهو خطأٌ لا ريب فيه، حتى لو ثبت اشتراكه في قتل عمر رضي الله عنه فليس لعبيد الله رضي الله عنه أن يقتله بنفسه، بل هذا للوالي.
كان الهرمزان مسلمًا منذ أربع سنوات تقريبًا، وله تاريخٌ متكرِّرٌ من الغدر قبل إسلامه مع المسلمين، ولعلَّ هذا هو ما دفع عبيد الله رضي الله عنه إلى القناعة بقتله.
بعد ولاية عثمان رضي الله عنه كانت هذه هي القضيَّة الأولى التي وجب عليه أن يفصل فيها، وهي تُبَيِّن في الواقع مدى العدالة الكبرى التي كانت عليها الدولة المسلمة في هذا الوقت؛ ومدى اهتمام المسلمين بمسألة كهذه في هذا التوقيت، فقد قُتِلَ كبيرُ القومِ عمر رضي الله عنه، والقاتل هو ابن رئيس الدولة، والمقتولان أحدهما فارسي حديث الإسلام له تاريخ غدرٍ مع المسلمين، وقتل منهم عددًا كبيرًا من الصحابة، منهم البراء بن مالك، ومجزأة بن ثور، رضي الله عنهما، والآخر عَبْدٌ نصراني، ومع ذلك اجتمع كبراء الدولة للنظر في أمر القاتل، وكان الجوُّ العامُّ للفقهاء والكبراء في اتِّجاه إقامة حدِّ القتل على عبيد الله رضي الله عنه، بينما كان رأي العامَّة في صالح العفو عنه!
يقول سعيد بن المسيب: «.. فَلَمَّا اسْتُخْلِفَ عُثْمَانُ رضي الله عنه دَعَا الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنْصَارَ فَقَالَ: أَشِيرُوا عَلَيَّ فِي قَتْلِ هَذَا الرَّجُلِ الَّذِي فَتَقَ فِي الدِّينِ مَا فَتَقَ. فَاجْتَمَعَ الْمُهَاجِرُونَ عَلَى كَلِمَةٍ وَاحِدَةٍ يُشَايِعُونَ عُثْمَانَ رضي الله عنه عَلَى قَتْلِهِ، وَجُلُّ النَّاسِ الأَعْظَمُ مَعَ عُبَيْدِ اللهِ رضي الله عنه يَقُولُونَ لَجُفَيْنَةُ وَالْهُرْمُزَانُ أَبْعَدَهُمَا اللهُ: لَعَلَّكُمْ تُرِيدُونَ أَنْ تُتْبِعُوا عُمَرَ رضي الله عنه ابْنَهُ؟ فَكَثُرَ فِي ذَلِكَ اللَّغَطُ وَالاخْتِلافُ، ثُمَّ قَالَ عَمْرُو بْنُ الْعَاصِ رضي الله عنه لِعُثْمَانَ رضي الله عنه: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، إِنَّ هَذَا الْأَمْرَ قَدْ كَانَ قَبْلَ أَنْ يَكُونَ لَكَ عَلَى النَّاسِ سُلْطَانٌ، فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ. وَتَفَرَّقَ النَّاسُ عَنْ خُطْبَةِ عَمْرٍو رضي الله عنه، وَانْتَهَى إِلَيْهِ عُثْمَانُ رضي الله عنه، وَوُدِيَ الرجلان والجارية»[4].
إذن قضى عثمان رضي الله عنه في هذه المسألة بدفع الدِّيَة للقتلى، والعفو عن عبيد الله رضي الله عنه، والخلفيَّة الفقهية لهذا القضاء ليست لأنه لم يكن له سلطان وقت الحادثة كما قال عمرو بن العاص رضي الله عنه، ولكن لسببين:
الأوَّل كون عبيد الله رضي الله عنه متأوِّلًا في القتل، فصار في القتل شبهة لا تُلْزِم القاضي بقتل القاتل، وهي تُشْبه الشبهة التي رآها رسول الله صلى الله عليه وسلم في مسألة أسامة بن زيد رضي الله عنهما عندما قتل المشرك الذي أثخن في المسلمين ثمَّ قال: لا إله إلا الله عندما رفع أسامة رضي الله عنه عليه السيف[5]، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يُقِمْ الحدَّ على أسامة رضي الله عنه لأنه كان متأوِّلًا، أي مجتهدًا في الحكم وأخطأ، ويُقال إن حفصة أمَّ المؤمنين رضي الله عنها كانت على رأي عبيد الله رضي الله عنه، بل شجَّعته عليه! نقل ذلك ابن سعد من طريق الزهري أن عَبْدَ اللهِ بْنَ عُمَرَ رضي الله عنهما قال: يَرْحَمُ اللهُ حَفْصَةَ رضي الله عنها فَإِنَّهَا مِمَّنْ شَجَّعَ عُبَيْدَ اللهِ رضي الله عنه عَلَى قَتْلِهِمْ[6]. وعَرَضَ ابن عباس رضي الله عنهما على عمر رضي الله عنه قَتْل الفرس بالمدينة بعد طَعْنِ عمر رضي الله عنه، ولكن عمر رضي الله عنه رفض ذلك بشدَّة، والصواب مع عمر رضي الله عنه لا شكَّ، ولكن الشاهد أن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما، وهو أفقه من عبيد الله بن عمر رضي الله عنهما بلا جدال رَأَى مثل رَاْي عبيد الله رضي الله عنه بل أشدَّ، وهذا يدلُّ على أن المسألة معقَّدة، وفيها تأويل واجتهاد، وهي قابلة للخطأ من قِبَل المتأولين.
أما السبب الثاني فهو غياب الوليِّ للقتلى، فصار الحاكم -أي عثمان رضي الله عنه- هو وَلِيُّهم، وقد عفا عثمان رضي الله عنه من منطلق أنَّه الوَلِيُّ، ووداهم بالمال، ورُوِيَ أنَّه وداهم من ماله الخاص، وليس من مال الدولة[7]. أما ما قيل من أن للهرمزان ولدًا هو وليه، وقد عفا عن عبيد الله رضي الله عنه، فهو من طريق ضعيف لا يصحُّ[8].
[1] الطبراني: المعجم الأوسط، وابن أبي عاصم الشيباني: الآحاد والمثاني، وقال الهيثمي: إسناده حسن.
[2] ابن سعد: الطبقات الكبرى، 3/271.
[3] ابن الأثير أبو الحسن: الكامل في التاريخ، 2/447.
[4] ابن سعد: الطبقات الكبرى، 3/271.
[5] البخاري كتاب المغازي، ومسلم: كتاب الإيمان، باب تحريم قتل الكافر بعد أن قال لا إله إلا الله، (97).
[6] ابن سعد: الطبقات الكبرى، 3/271.
[7] الطبري: تاريخ الرسل والملوك، 4/239.
[8] لمشاهدة الحلقة على اليوتيوب اضغط هنا
التعليقات
إرسال تعليقك