ملخص المقال
25% من المسلمين في العالم يتبعون المذهب المالكي، خاصة في دول شمال وغرب إفريقيا، فكيف انتشر فقه الإمام مالك من المدينة إلى كل هذه البقاع؟
25% من المسلمين في العالم يتبعون المذهب المالكي، خاصة في دول شمال وغرب إفريقيا، فكيف انتشر فقه الإمام مالك من المدينة إلى كل هذه البقاع؟
بشكل عام كان مالك يُدّرس لوفود كثيرة في موسم الحج وهم من بلاد مختلفة، يروي الحسن بن أبي الربيع يقول: كنا على باب مالك بن أنس فخرج فنادى منادٍ ليدخل أهل الحجاز فما دخل إلا أهل الحجاز، ثم خرج فنادى ليدخل أهل الشام فما دخل إلا أهل الشام، ثم خرج فنادى ليدخل أهل العراق فكنا آخر من دخل وكان فينا حماد بن أبي حنيفة فذكر أنَّ حمادًا كلم مالكًا فحدثهم بعشرين حديثا، والتسلسل التاريخي لانتشار مذهب الإمام مالك له قصة:
أولًا: تأليف الموطأ:
روى أبو مصعب أن أبا جعفر المنصور قال لمالك: ضع للناس كتابًا أحملهم عليه فكلمه مالك في ذلك فقال: ضعه فما أحد اليوم أعلم منك فوضع الموطأ فلم يفرغ منه حتى مات أبو جعفر، وفي رواية أن المنصور قال له: يا أبا عبد الله ضع هذا العلم ودون كتابًا وجنب فيه شدائد عبد الله بن عمر رضي الله عنهما ورخص عبد الله بن عباس رضي الله عنهما وشواذ بن مسعود رضي الله عنه واقصد أواسط الأمور وما أجمع عليه الصحابة والأئمة.
ثانيًا: سعي المنصور والرشيد لفرض الموطأ على الدولة كلها ورفض مالك:
كانا قد سعي المنصور والرشيد لفرض الموطأ على الدولة كلها، ولكن ورفض الإمام مالك ذلك فقال: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ لَا تَفْعَلْ هَذَا فَإِنَّ النَّاسَ قَدْ سَبَقَتْ إِلَيْهِمْ أَقَاوِيلُ وَسَمِعُوا أَحَادِيثَ وَرُوُّوا رِوَايَاتٍ وَأَخَذَ كُلُّ قَوْمٍ بِمَا سبق إِلَيْهِمْ وَعَمِلُوا بِهِ وَدَانُوا بِهِ مِنَ اخْتِلافِ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَغَيْرِهِمْ وَإِنَّ رَدَّهُمْ عَمَّا اعْتَقَدُوهُ شَدِيدٌ فَدَعِ النَّاسَ وَمَا هُمْ عَلَيْهِ.
وأيضًا «قال مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ: شَاوَرَنِي هَارُونُ الرَّشِيدُ فِي أَنْ يُعَلِّقَ الْمُوَطَّأَ فِي الْكَعْبَةِ وَيَحْمِلَ النَّاسَ عَلَى مَا فِيهِ، فَقُلْتُ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، أَمَّا تَعْلِيقُ الْمُوَطَّأِ فِي الْكَعْبَةِ فَإِنَّ أَصْحَابَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اخْتَلَفُوا فِي الْفُرُوعِ وَتَفَرَّقُوا فِي الْآفَاقِ وَكُلٌّ عِنْدَ نَفْسِهِ مُصِيبٌ..".
مكانة الموطـأ:
قال الشافعي: «ما على ظهر الأرض كتاب بعد كتاب الله أصح من كتاب مالك»، وعلَّق عليه النووي بأن هـذا كـان قبل وجود الصحيحين، وهما أصح من الموطـأ باتفاق العلماء، وفي منهجه قال مالك وقد ذُكِر له الموطأ: «فيه حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقول الصحابة والتابعين، ورأيي، وقد تكلمت برأي على الاجتهاد وعلى ما أدركت عليه أهل العلم ببلدنا. ولم أخرج عن جملتهم إلى غيره».
وأما رأي مالك الذي في الموطأ فقد بيَّن في موضع آخر أنه ليس في رأيه على الحقيقة، ولكن "سماع من غير واحد من أهل العلم والفضل والأئمة المقتدى بهم الذين أخذت عنهم، وكان يتحرَّى فيه الصحيح، وراجعه وأسقط منه الكثير. قال عتيق الزبيري: "وضع مالك الموطأ على نحو من عشرة آلاف حديث فلم يزل ينظر فيه سنة ويسقط منه حتى بقي هذا ولو بقي قليلًا لأسقطه كله". يعني تحرِّيًا.
روايات الموطأ:
ذكر القاضي عياض 56 راوي للموطأ، والمطبوع المتداول الآن روايتان: رواية محمد بن الحسن الشيباني صاحب أبي حنيفة، ورواية يحيى بن يحيى الليثي الأندلسي من تلاميذ مالك.
رواية ابن الحسن: الإمام الكبير صاحب أبي حنيفة، وقد لازم شيخه مالكا ثلاث سنين وسمع منه الكتاب بلفظه، وأتقن روايته عنه، وأضاف بعد روايته أحاديث الباب بيان مذهبه في المسألة موافقًا أو مخالفًا، وبيان مذهب شيخه الإمام أبي حنيفة فيها.
رواية الليثي: يحيى بن يحيى الليثي إمام الأندلس وصاحب أشهر روايات الموطأ، أخذها عنه أهل المشرق والمغرب وخاصة في الأندلس، ووصفه مالك بأنه: "عاقل الأندلس".
وعلى نفس مستوى أهمية الكتاب كان الطلاب النجباء الذين نشروا الكتاب وشرحوه وزرعوا في الناس القناعة باتِّباعه، وفي مقدمة هؤلاء أربعة:
1- عبد الرحمن بن القاسم (132-191هـ): المصري، جمع بين الزهد والعلم. له (المدونة) ستة عشر جزءًا، وهي من أجلِّ كتب المالكية».
2- عبد الله بن وهب (125-197هـ): جمع بين الفقه والحديث والعبادة. له كتب، منها "الجامع" في الحديث، نَظَرَ الشَّافِعِيُّ فِي كُتُبِهِ، وَنَسْخَ أَكْثَرَهَا».
3- أشهب بن عبد العزيز (145-204هـ): فقيه الديار المصرية في عصره. قال الذهبي: كَانَ ابن القاسم أبصر بفقه مالك منه. ولكن أشهب أعلم بالحديث من ابن القاسم».
4- أسد بن الفرات: أصله من خراسان، ورحل أبوه إلى تونس فنشأ بها، ثم رحل إلى المشرق في طلب الحديث. سمع من مالك الموطأ، وكانت له رغبة في الغوص في المسائل وتفريعاتها ولم يرغب مالك في ذلك، فانتقل إلى العراق، فلقي أبا يوسف، ولازم محمد بن الحسن وتفقه به وأخذ بمذهبه، ثم عاد إلى مذهب مالك ولزم أصحابه المصريين.
الأسدية ثم المدونة:
الأسدية: جمع أسد بن الفرات مسائله لمحمد بن الحسن وما سمعه من علم أبي حنيفة بالعراق وسأل ابن القاسم أن يجيبه فيها على مذهب مالك فأجابه إلى ما طلب، وسميت تلك الكتب بالأسدية، كتبها عنه أهل مصر وأهل القيروان، واشتهر بها.
المدونة: أخذ قاضي القيروان سُحنون الأسدية إلى ابن القاسم بمصر، فعرضها عليه، وناظره فيها، فغير ابن القاسم أشياء كثيرة، وهذّبها مع سحنون، وكتب إلى أسد بأن يعارض كتبه بكتب سحنون لما أجرى فيها من تعديل، فلم يرض أسد أن ينزل بعد علو، لكن الناس اقتصروا بعد ذلك على تهذيب سحنون، وتركوا الأسدية. صارت مدونة سحنون أصل المذهب.
5- الشافعي: تعلم على مالك 16 عامًا تقريبًا (163-179ه)، ودافع كثيرًا عنه، لكنه أسَّس مذهبه، فخالف مالك في عدة قضايا، ولا يعتبر بذلك ناشرًا لمذهبه.
أصول المذهب:
لم يكن للإمام مالك أصولًا مدونةٌ بالمعنى المعروف، إنما استقصاها أصحابه من فقهه:
1- القرآن الكريم:
2- السنة: كان من أئمة الحديث كما أنه إمام في الفقه، وكان يشدد في قبول الرواية المشهورة والمتواترة، ومع ذلك كان يقبل المرسل من الأحاديث، مادام رجاله ثقات، وقد اختلفوا في تقديم القياس على خبر الواحد، والمشهور في ذلك أنه كان يقدم خبر الواحد على القياس.
3- قول الصحابي: أكثر من الأخذ بفتوى الصحابة، واعتبرها من السنة، وقدمها على الإجماع.
4- الإجماع: كان يحتج به الإمام بلفظ: "الأمر المجتمع عليه".
5- عمل أهل المدينة: اعتبر الإمام مالك عمل أهل المدينة مصدرًا فقهيًّا اعتمد عليه في فتاويه، ويقدمه أحيانًا على خبر الآحاد إذا تعارضا.
6- القياس: كان يأخذ بالقياس في استنباط الأحكام، فيقيس على الأحكام المنصوص عليها في القرآن، أو المستمدة من الأحاديث، وكذلك يقيس على فتاوى الصحابة.
7- المصالح المرسلة: إن لم يكن نص قرآني أو حديث نبوي.
8- الاستحسان: هو عند الإمام تسعة أعشار العلم، ومن أمثلته: الاطلاع على عورات الناس للتداوي؛ فإن القاعدة في العورات تحريم رؤيتها، ولكن استحسنت لدفع الضرر.
9- سد الذرائع: ما كان وسيلة إلى المحرم فهو محرم، وما كان وسيلة إلى مطلوب فهو مطلوب، (وهو أصل لم تعتمده كل المذاهب).
10- العادة والعرف: بشرط عدم التعارض مع القرآن والسُّنَّة.
انتشار المذهب:
ظهر في مصر في حياة مالك على يد تلاميذه ابن القاسم وابن وهب وأشهب وغيرهم، إلى أن جاء الشافعي فصار المذهبان هما الغالبان، وفي تونس انتشر مع غلبة المذهب الحنفي مدة سلطان أسد بن الفرات، ثم جاء المعز بن باديس فحمل أهل تونس وما والاها من بلاد المغرب على مذهب مالك، وفي الأندلس تبنى مذهب مالك هشام بن عبد الرحمن.
وما أجمل أن ننهي الحلقة بكلمة التواضع العظيمة لهذا الإمام الحبر: "كل أحد يؤخذ من قوله، ويترك، إلا صاحب هذا القبر صلى الله عليه وسلم". فليس عنده مانع من أن يخالف الناس مذهبه إذا ثبت لهم قول عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في مذهب آخر[1].
[1] لمشاهدة الحلقة على اليوتيوب اضغط هنا
التعليقات
إرسال تعليقك