ملخص المقال
كان الإمام نافع أحد القرَّاء السبعة المشهورين، وقد كانت حلقته في المسجد النبوي من أشهر الحلقات ولذلك كان الطلاب يفدون إليه من كلِّ مكان.
تعتبر المدينة المنورة ثاني أعظم مدينة في الدنيا، وهذا في رأي معظم العلماء، ورفعها بعضهم للمركز الأول، هذه هي طَيْبَة[1]أول عاصمة في تاريخ الإسلام. وقد أُسست المدينة المنورة قبل الهجرة النبوية بحوالي 1600 سنة، وعُرفت قبل ظهور الإسلام باسم «يثرب» وقد غيره النبي ﷺ ونهى عن تسميته. وتضم المدينة أقدم ثلاث مساجد في الإسلام، وهم: المسجد النبوي، ومسجد قُبَاءٍ، ومسجد القبلتين، وقد هاجر إليها النبي ﷺ وأسس بها أول دولة للإسلام.
كما ذكرنا أنَّ المدينة تضم أقدم ثلاث مساجد في الإسلام منها المسجد النبوي الذي يُعد أعظم مفاخر المدينة، وقد أسسه رسول الله ﷺ في العام الأول من هجرته ﷺ، ووسَّعه في العام السابع بعد غزوة خيبر، ثم وُسِّع في خلافة عمر وتحديدًا سنة 17هـ، ثم وُسِّع في خلافة عثمان، وتوالت التوسعة فيه إلى عهدنا هذا، وهذا المسجد به الروضة الشريفة، وأُدْرِج فيه أثناء إحدى التوسعات قبر الرسول ﷺ، ومعروف لدى الجميع أنًّه هو المسجد الذي أُسِّس على التقوى، وفيه قال النبي ﷺ: "صَلَاةٌ فِي مَسْجِدِي هَذَا أَفْضَلُ مِنْ أَلْفِ صَلَاةٍ فِيمَا سِوَاهُ، إِلَّا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ"[2].
وأيضًا قال النبي ﷺ: "مَنْ غَدَا إِلَى الْمَسْجِدِ لَا يُرِيدُ إِلَّا أَنْ يَتَعَلَّمَ خَيْرًا أَوْ يَعْلَمَهُ، كَانَ لَهُ كَأَجْرِ حَاجٍّ تَامًّا حِجَّتُهُ"[3]، وفي رواية عند الطبراني، والحاكم، وابن حبان، قصر ذلك على مسجده فقال -كما جاء عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ السَّاعِدِيِّ: «مَنْ دَخَلَ مَسْجِدِي هَذَا لِيَتَعَلَّمَ خَيْرًا أَوْ لِيُعَلِّمَهُ، كَانَ بِمَنْزِلَةِ الْمُجَاهِدِ فِي سَبِيلِ اللهِ، وَمَنْ دَخَلَهُ لِغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ أَحَادِيثِ النَّاسِ، كَانَ بِمَنْزِلَةِ مَنْ يَرَى مَا يُعْجِبُهُ وَهُوَ شَيْءٌ غَيْرُهُ»[4].
هذا الحديث الأخير يلفت أنظارنا إلى صورة حضارية رائعة من صور حضارة المسلمين، وهي صورة مجالس العلم العامة، وهي إضافة إسلامية حضارية للإنسانية، ولم تكن معروفة في حواضر العالم قبل الإسلام، حيث بدأ ذلك الرسول ﷺ، فكان يجتمع مع الصحابة y فيتلو عليهم ما ينزل من القرآن، ويُعَلِّمهم أحكام الدِّينِ بالقول والعمل، وظلَّ المسجد يُؤَدِّي رسالته إلى يومنا هذا، ودرَّس في حلقات العلم بالمسجد أكابر علماء المسلمين.
حلقة الإمام نافع بالمسجد النبوي
كانت حلقات العلم في المسجد النبوي من الحلقات الشهيرة على مستوى العالم الإسلامي، وكان طلاب العلم من شتى البلاد يؤمونها، ومنهم الإمام مالك، والشافعي، وابن حنبل، والبخاري، وأيضًا الإمام نافع[5] بن عبد الرحمن أحد القرَّاء السبعة المشهورين[6]، وقد كانت حلقة نافع بن عبد الرحمن في مسجد رسول الله ﷺ من أشهر الحلقات يومئذٍ في قراءة وتعلم كتاب الله؛ ولذلك كان الطلاب يفدون إليه من كلِّ مكان.
قصة عجيبة للإمام ورش مع الإمام نافع في المسجد النبوي
حكى الإمام ورش المصري[7] عن تجربته في حلقة الإمام نافع في المسجد النبوي، فقال: «خرجتُ من مصر لأقرأ على نافع، فلما وصلتُ إلى المدينة صرتُ إلى مسجد نافع، فإذا هو لا تُطاق القراءة عليه من كثرتهم، وإنما يُقْرِئ ثلاثين، فجلستُ خلف الحلقة، وقُلتُ لإنسان: مَنْ أكبر الناس عند نافع؟ فقال لي: كبير الجعفريين. فقلتُ: فكيف به؟ قال: أنا أجيء معك إلى منزله. وجئنا إلى منزله، فخرج شيخٌ، فقُلتُ: أنا من مصر، جئتُ لأقرأ على نافع فلم أصل إليه، وأُخبرتُ أنك من أصدق الناس له، وأنا أريد أن تكون الوسيلة إليه. فقال: نعم وكرامة. وأخذ طيلسانه ومضى معنا إلى نافع، وكان لنافع كنيتان أبو رويم وأبو عبد الله، فبأيهما نودي أجاب، فقال له الجعفري: هذا وسيلتي إليك جاء من مصر، ليس معه تجارة ولا جاء لحجٍّ، إنما جاء للقراءة خاصة. فقال: تَرى ما ألقى من أبناء المهاجرين والأنصار؟ فقال صديقه: تحتال له. فقال لي نافع: أيمكنك أن تبيت في المسجد. قلت: نعم. فبتُّ في المسجد، فلما أن كان الفجر، جاء نافع فقال: ما فعل الغريب؟ فقلت: ها أنا، رحمك الله. قال: أنت أولى بالقراءة. قال: وكنتُ مع ذلك حسن الصوت، مدادًا به. فاستفتحت فملأ صوتي مسجد رسول الله ﷺ فقرأتُ ثلاثين آية، فأشار فسكَتُّ، فقام إليه شابٌّ من الحلقة، فقال: يا معلم -أعزك الله- نحن معك، وهذا رجل غريب، وإنما رحل للقراءة عليك، وقد جعلت له عشرًا، وأقْتَصِرُ على عشرين. فقال: نعم وكرامة. فقرأتُ عشرًا. فقام فتى آخر فقال كقول صاحبه، فقرأتُ عشرًا وقعدتُ، حتى لم يبق له أحد ممن له قراءة، فقال لي: اقرأ. فأقرأني خمسين آية، فما زلتُ أقرأ عليه خمسين في خمسين حتى قرأتُ عليه ختمات قبل أن أخرج من المدينة»[8].
هذا هو الإمام ورش المصري الذي يُعد من أعظم قرَّاء القرآن الكريم، وقد شدَّ الرحال من مصر إلى المدينة لكي يتعلَّم القرآن الكريم متخذًا في ذلك بعض الخطوات التي دلت على التكاتف من المجتمع المسلم مثل:
1- الانسان الذي استشاره في البداية
2- كبير الجعفريين الذي توسَّط له عند نافع
3- نافع الذي دفعه للحيلة للجلوس للقراءة في وجود أبناء المهاجرين والأنصار
4- الطالبان اللذان تبرَّعا بعشر آيات من نصيبهما له
هذا هو الإمام ورش المصري الذي صارت قراءته هي المشتهرة إلى الآن في بلاد كثيرة منها بلاد شمال إفريقيا وخاصة المغرب والأندلس، والآن في المغرب، والجزائر، وموريتانيا، والسنغال، وبعض الأجزاء من البلاد الأخرى؛ كدارفور بالسودان، وكبعض مناطق تونس، وليبيا، ومصر، وقد روى عن نافع الإمام قالون: وهو عيسى بن مينا المدني، وهو ربيب نافع (ابن زوجته) وقد لازمه كثيرًا، ولد 120هـ، وقرأ على نافع سنة 150هـ، ونافع هو من لقَّبه بقالون، وهي تعني بالرومية: "الجيِّد". وتوفي 220هـ، وقراءته منتشرة في ليبيا، وأجزاء من تونس ومصر[9].
[1] تُسَمَّى الْمدَينَةُ: طَابَةُ وَطَيْبَةُ. انظر: ابن الجوزي: مثير الغرام الساكن إلى أشرف الأماكن، تحقيق: د/ مصطفى محمد حسين الذهبي
الناشر، دار الحديث، القاهرة، الطبعة الأولى، 1415هـ= 1995م، ص452.
[2] البخاري: أبواب التطوع، باب فضل الصلاة في مسجد مكة والمدينة، (1133)، ومسلم: كتاب الحج، باب فضل الصلاة بمسجدي مكة والمدينة، (1394).
[3] رواه الطبراني في المعجم الكبير (8/111) وأبو نعيم في حلية الأولياء (6/97)، وقال الهيثمي: رواه الطبراني في الكبير، ورجاله موثقون كلهم. انظر: مجمع الزوائد ومنبع الفوائد (1/ 123).
[4] الطبراني في المعجم الكبير (5921)
[5] الإمام نافع: «هو أبو رُوَيْم نافع بن عبد الرحمن بن أبي نُعيم الليثي الكناني بالولاء، أصبهاني الأصل. كان شديد السواد، صبيح الوجه، حسن الخلق، فيه دعابة. قارئ المدينة، وهو أحد القرَّاء السبعة المشهورين، ومن تابعي التابعين، ولد في حدود سنة 70ه، وتوفي في المدينة 169هـ».
[6] القراء السبعة: ابن كثير المكي، وابن عامر الشامي، وعاصم الكوفي، وأبو عمرو البصري، وحمزة الزيات الكوفي، ونافع المدني، والكسائي الكوفي. وتكملة العشرة: أبو جعفر المدني، وهو يزيد بن القعقاع، ويعقوب البصري، وخلف بن هشام المشهور بالعاشر.
[7] وَرْش: أبو سعيد عثمان بن سعيد المصري. ونافع هو من لقَّبه (ورش)، والورش هو شيء يُصنع من اللبن، ويقال إنه لُقِّب به لبياضه، أصله من القيروان، وولد في مصر 110ه وتوفي بها 197هـ.
[8] الذهبي: معرفة القراء الكبار على الطبقات والأعصار 1/154، 155.
[9] لمشاهدة الحلقة على اليوتيوب اضغط هنا
التعليقات
إرسال تعليقك