التاريخ الإسلامي
دون تشويه أو تزوير
التاريخ الإسلامي يمتد منذ بداية الدعوة الإسلامية بعد نزول الوحي على رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم تأسيس الدولة الإسلامية بالمدينة المنورة وحكم الخلفاء الراشدين، مرورًا بالدولة الأموية فالدولة العباسية بما تضمنته من إمارات ودول مثل السلاجقة والغزنوية في وسط آسيا والعراق وفي المغرب الأدارسة والمرابطين ثم الموحدين وأخيرًا في مصر الفاطميين والأيوبيين والمماليك ثم سيطرة الدولة العثمانية التي تعتبر آخر خلافة إسلامية على امتداد رقعة جغرافية واسعة، وهذه البوابة تعنى بتوثيق التاريخ من مصادره الصحيحة، بمنهجية علمية، وعرضه في صورة معاصرة دون تشويه أو تزوير، وتحليل أحداثه وربطها بالواقع، واستخراج السنن التي تسهم في بناء المستقبل.
ملخص المقال
نقلت كتب السنن بعض المواقف التي غضب رسول الله صلى الله عليه وسلم فيها من بعض الصحابة رضوان الله عليهم، فماذا تعرف عن ذلك؟
نقلت كتب السنن بعض المواقف التي غضب رسول الله صلى الله عليه وسلم فيها من بعض الصحابة رضوان الله عليهم وقد كانت كل مواقف الغضب لحدوث مشكلة شرعية، وهناك أمثلة على ذلك منها:
غضبه صلى الله عليه وسلم من أبي ذرٍّ عندما قال لبلال يا ابن السوداء: روى البخاري عن المعرور قال: لقِيتُ أَبَا ذَرٍّ بِالرَّبَذَةِ وَعَلَيْهِ حُلَّةٌ وَعَلَى غُلَامِهِ حُلَّةٌ فَسَأَلْتُهُ عَنْ ذَلِكَ فَقَالَ إِنِّي سَابَبْتُ رَجُلًا فَعَيَّرْتُهُ بِأُمِّهِ فَقَالَ لِي النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم "يَا أَبَا ذَرٍّ أَعَيَّرْتَهُ بِأُمِّهِ إِنَّكَ امْرُؤٌ فِيكَ جَاهِلِيَّةٌ إِخْوَانُكُمْ خَوَلُكُمْ جَعَلَهُمْ اللَّهُ تَحْتَ أَيْدِيكُمْ فَمَنْ كَانَ أَخُوهُ تَحْتَ يَدِهِ فَلْيُطْعِمْهُ مِمَّا يَأْكُلُ وَلْيُلْبِسْهُ مِمَّا يَلْبَسُ وَلَا تُكَلِّفُوهُمْ مَا يَغْلِبُهُمْ فَإِنْ كَلَّفْتُمُوهُمْ فَأَعِينُوهُمْ"[1].
أيضًا غضب النبي صلى الله عليه وسلم من الثلاثة الذين أرادوا الزيادة في العبادة عن السُّنَّة: روى البخاري عن أنس بن مالك: قَالَ أَحَدُهُمْ: أَمَّا أَنَا فَإِنِّي أُصَلِّي اللَّيْلَ أَبَدًا، وَقَالَ آخَرُ: أَنَا أَصُومُ الدَّهْرَ وَلاَ أُفْطِرُ، وَقَالَ آخَرُ: أَنَا أَعْتَزِلُ النِّسَاءَ فَلاَ أَتَزَوَّجُ أَبَدًا، فَجَاءَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِلَيْهِمْ، فَقَالَ: «أَنْتُمُ الَّذِينَ قُلْتُمْ كَذَا وَكَذَا، أَمَا وَاللَّهِ إِنِّي لَأَخْشَاكُمْ لِلَّهِ وَأَتْقَاكُمْ لَهُ، لَكِنِّي أَصُومُ وَأُفْطِرُ، وَأُصَلِّي وَأَرْقُدُ، وَأَتَزَوَّجُ النِّسَاءَ، فَمَنْ رَغِبَ عَنْ سُنَّتِي فَلَيْسَ مِنِّي»[2].
كما غضب صلى الله عليه وسلم من عمر رضي الله عنه لخلافه مع أبو بكر الصديق: روى البخاري قَالَ أَبُو الدَّرْدَاءِ: وَغَضِبَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَجَعَلَ أَبُو بَكْرٍ يَقُولُ: وَاللَّهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ لَأَنَا كُنْتُ أَظْلَمَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "هَلْ أَنْتُمْ تَارِكُونَ لِي صَاحِبِي، هَلْ أَنْتُمْ تَارِكُونَ لِي صَاحِبِي، إِنِّي قُلْتُ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ، إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا، فَقُلْتُمْ: كَذَبْتَ، وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: صَدَقْتَ"[3].
غضب الرسول صلى الله عليه وسلم أيضًا من عائشة عندما تتبعته إلى البقيع تظنُّ أنه ذاهب لغيرها في ليلتها: روى مسلم عن عائشة: «أَظَنَنْتِ أَنْ يَحِيفَ اللهُ عَلَيْكِ وَرَسُولُهُ؟»[4]، كما غضب أيضًا صلى الله عليه وسلم من معاذ بن جبل لإطالته لصلاة الجماعة: روى البخاري عن أَبِي مَسْعُودٍ، أَنَّ رَجُلًا، قَالَ: وَاللَّهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّي لَأَتَأَخَّرُ عَنْ صَلاَةِ الغَدَاةِ مِنْ أَجْلِ فُلاَنٍ مِمَّا يُطِيلُ بِنَا، فَمَا رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي مَوْعِظَةٍ أَشَدَّ غَضَبًا مِنْهُ يَوْمَئِذٍ، ثُمَّ قَالَ: «إِنَّ مِنْكُمْ مُنَفِّرِينَ، فَأَيُّكُمْ مَا صَلَّى بِالنَّاسِ فَلْيَتَجَوَّزْ، فَإِنَّ فِيهِمُ الضَّعِيفَ وَالكَبِيرَ وَذَا الحَاجَةِ»[5].
معظم هذه المواقف كانت في المدينة زمن التشريع والدولة، وحدوث المخالفات من البعض، وهناك أيضًا موقف نادر في مكة حول الكعبة، وهو من المواقف النادرة التي غضب فيها الرسول صلى الله عليه وسلم من صحابي في مكة، وكان الرسول صلى الله عليه وسلم شديد الرفق بأصحابه في هذه الظروف، وليس العجيب هو الغضب من بعض الصحابة في مكة، ولكن العجيب هو سبب الغضب، فقد كان سبب الغضب هو طلب النصرة من الله، وطلب الدعاء للصحابة!
يقول خباب بن الأرت رضي الله عنه: شَكَوْنَا إِلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ مُتَوَسِّدٌ بُرْدَةً لَهُ فِي ظِلِّ الْكَعْبَةِ، قُلْنَا لَهُ: أَلَا تَسْتَنْصِرُ لَنَا؟ أَلَا تَدْعُو اللهَ لَنَا؟ قَالَ: «كَانَ الرَّجُلُ فِيمَنْ قَبْلَكُمْ يُحْفَرُ لَهُ فِي الأَرْضِ فَيُجْعَلُ فِيهِ، فَيُجَاءُ بِالْمِنْشَارِ فَيُوضَعُ عَلَى رَأْسِهِ فَيُشَقُّ بِاثْنَتَيْنِ، وَمَا يَصُدُّهُ ذَلِكَ عَنْ دِينِهِ، وَيُمْشَطُ بِأَمْشَاطِ الْحَدِيدِ مَا دُونَ لَحْمِهِ مِنْ عَظْمٍ أَوْ عَصَبٍ، وَمَا يَصُدُّهُ ذَلِكَ عَنْ دِينِهِ، وَاللهِ لَيُتِمَّنَّ هَذَا الأَمْرَ حَتَّى يَسِيرَ الرَّاكِبُ مِنْ صَنْعَاءَ إِلَى حَضْرَمَوْتَ لَا يَخَافُ إِلَّا اللهَ أَوِ الذِّئْبَ عَلَى غَنَمِهِ، وَلَكِنَّكُمْ تَسْتَعْجِلُونَ»[6].
وفي رواية؛ قال: أَتَيْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ مُتَوَسِّدٌ بُرْدَةً وَهُوَ فِي ظِلِّ الْكَعْبَةِ، وَقَدْ لَقِينَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ شِدَّةً، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ أَلَا تَدْعُو اللهَ؟ فَقَعَدَ وَهُوَ مُحْمَرٌّ وَجْهُهُ، فَقَالَ " لَقَدْ كَانَ مَنْ قَبْلَكُمْ لَيُمْشَطُ بِمِشَاطِ الْحَدِيدِ مَا دُونَ عِظَامِهِ مِنْ لَحْمٍ أَوْ عَصَبٍ مَا يَصْرِفُهُ ذَلِكَ عَنْ دِينِهِ وَيُوضَعُ الْمِنْشَارُ عَلَى مَفْرِقِ رَأْسِهِ فَيُشَقُّ بِاثْنَيْنِ مَا يَصْرِفُهُ ذَلِكَ عَنْ دِينِهِ وَلَيُتِمَّنَّ اللَّهُ هَذَا الْأَمْرَ حَتَّى يَسِيرَ الرَّاكِبُ مِنْ صَنْعَاءَ إِلَى حَضْرَمَوْتَ مَا يَخَافُ إِلَّا اللَّهَ"[7].
مظاهر غضب الرسول صلى الله عليه وسلم
كانت مظاهر غضب الرسول صلى الله عليه وسلم متعددة، منها: تغييره لجلسته صلى الله عليه وسلم، واحمرار وجهه، وضربه بالمثل لأناس مرُّوا في ظروف أشدَّ من التي يمرُّ بها الصحابة رضي الله عنهم، وقَسَمَه على أن الأمر سيتمُّ، وهو لا يحتاج إلى قسم صلى الله عليه وسلم، وتصريحه بأن الصحابة تستعجل!
لماذا غضب النبي صلى الله عليه وسلم؟
كان غضب النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الموقف لأكثر من سبب:
أولًا: اشتمَّ رائحة اليأس في كلام خباب رضي الله عنه! واليأس مرض مُهْلِك! وبالتالي فهو غير مقبول من المؤمنين أبدًا: قال تعالى: {قَالَ وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلَّا الضَّالُّونَ} [الحجر: 56]: مع أن اليأس من الإنجاب في حقِّ إبراهيم عليه الصلاة والسلام غير منكر، لكونه وامرأته طاعنَيْن في السِّنِّ، فضلًا عن العقم عند الزوجة، وقال تعالى أيضًا: {يَا بَنِيَّ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلَا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِنَّهُ لَا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ} [يوسف: 87]، ومن جديد اليأس في موقف يعقوب متوقَّع لأن يوسف ضاع منه منذ سنوات طويلة.
ثانيًا: اليأس من الأمراض المعدية: والتي يمكن أن تنتقل بسهولة من إنسان إلى آخر، وآثاره يمكن أن تكون وخيمة، ووضح من الرواية الأولى أنَّ الأمر شاع في بعض الصحابة، وليس خاصًّا بخباب، فقد قال: «شكونا... قلنا...». فهذا يعني أنهم كانوا مجموعة، وكان خبَّاب رضي الله عنه يتحدَّث عنهم.
ثالثًا: نحن لا نُحَدِّد بأي طريقة يمكن لنا أن نعبد الله عز وجل؛ بل الأصل أنه هو سبحانه الذي يُحَدِّد لنا كيف نعبده، وقد علَّمنا كيف نعبده في الضرَّاء بالصبر، وكيف نعبده في السرَّاء بالشكر، وهو سبحانه وتعالى لا يَعْجَل بعَجَلَة عباده، إنما يفعل ما يراه خيرًا لهم، وهو لا يُسْأل عمَّا يفعل، بينما البشر يُسْأَلون.
ماذا فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم مع هذا الموقف؟
أولًا: زرع الأمل دون تحديد موعد: وَاللهِ لَيُتِمَّنَّ هَذَا الأَمْرَ
ثانيًا: تعظيم قدر الله عز وجل في القلوب: «لا يَخَافُ إِلَّا اللهَ».
ثالثًا: الأخذ بالأسباب، وتوقِّي التعرُّض للأذى: والذئبَ على غنمه
رابعًا: استخدام القسم، وفيه طمأنة للصحابة بحدوث البشرى
خامسًا: استخدام التاريخ في التربية، وضرب الأمثلة المشابهة.
سادسًا: المشاركة للصحابة في الأزمة، والتعرُّض لما يتعرَّضون له من أذى.
يبقى أن نذكر أمرين:
الأول: أن خبابًا لم يتحرَّك بهذه الشكوى وهو يظنُّ أنه سيعذَّب، أو مع تعذيب طفيف، بل لعله كان من أشدِّ الصحابة تعرُّضًا للتعذيب: قال الشعبي: «سَأَلَ عُمَرُ رضي الله عنه خَبَّابًا عَمَّا لَقِيَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ؟ فَقَالَ خَبَّابٌ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، انْظُرْ إِلَى ظَهْرِي. فقال عمر: مَا رَأَيْتُ كَالْيَوْمِ. قال: أَوْقِدُوا إِلَيَّ نَارًا، فَمَا أَطْفَأَهَا إِلَّا وَدَكُ[8] ظَهْرِي»[9]،وعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رَأَى قَرْيَةَ نَمْلٍ قَدْ حَرَّقْنَاهَا فَقَالَ: «مَنْ حَرَّقَ هَذِهِ؟» قلنا: نحن. قال: «إِنَّهُ لَا يَنْبَغِي أَنْ يُعَذِّبَ بِالنَّارِ إِلَّا رَبُّ النَّارِ»[10].
الأمر الثاني: ليس معنى عدم اليأس ألا يحزن الإنسان على ما يتعرَّض له من مصائب، لكن لا ينبغي لهذا الحزن أن يُدْخِلَه في اليأس، أو يوقفه عن العمل.
[1] البخاري: كتاب الإيمان، باب المعاصي من أمر الجاهلية ولا يكفر صاحبها بارتكابها إلا بالشرك (30).
[2] البخاري: كتاب النكاح، باب الترغيب في النكاح (4776).
[3] البخاري: كتاب التفسير، باب تفسير سورة الأعراف (4364).
[4] البخاري: كتاب الجنائز، باب ما يقال عند دخول القبور والدعاء لأهلها (974).
[5] البخاري: كتاب الجماعة والإمامة، باب تخفيف الإمام في القيام وإتمام الركوع والسجود (670).
[6] البخاري: كتاب المناقب، باب علامات النبوة في الإسلام، (3416)، وأحمد (21110).
[7] البخاري: كتاب فضائل الصحابة، باب ما لقي النبي r وأصحابه من المشركين بمكة، (3639).
[8] الودك: الدسم.
[9] أبو نعيم الأصبهاني: حلية الأولياء 1/144، وقال الصوياني: رواه أبو نعيم... وظاهر هذا السند الإرسال لكن يشهد له ما سبق. انظر: السيرة النبوية 1/93.
[10] أبو داود: كتاب الجهاد، باب في كراهية حرق العدو بالنار (2675)، وصححه الألباني: انظر: السلسلة الصحيحة (487).
التعليقات
إرسال تعليقك