التاريخ الإسلامي
دون تشويه أو تزوير
التاريخ الإسلامي يمتد منذ بداية الدعوة الإسلامية بعد نزول الوحي على رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم تأسيس الدولة الإسلامية بالمدينة المنورة وحكم الخلفاء الراشدين، مرورًا بالدولة الأموية فالدولة العباسية بما تضمنته من إمارات ودول مثل السلاجقة والغزنوية في وسط آسيا والعراق وفي المغرب الأدارسة والمرابطين ثم الموحدين وأخيرًا في مصر الفاطميين والأيوبيين والمماليك ثم سيطرة الدولة العثمانية التي تعتبر آخر خلافة إسلامية على امتداد رقعة جغرافية واسعة، وهذه البوابة تعنى بتوثيق التاريخ من مصادره الصحيحة، بمنهجية علمية، وعرضه في صورة معاصرة دون تشويه أو تزوير، وتحليل أحداثه وربطها بالواقع، واستخراج السنن التي تسهم في بناء المستقبل.
ملخص المقال
يقول المؤرخ الأميركي ديڤيد ديل تيستا: محمد الفاتح هو المؤسس الحقيقي للإمبراطورية العثمانية، وهو الذي ثبت دعائمها في شرق البحر المتوسط.
الفاتح في عيون المؤرخين:
تقول المؤرِّخة الإنجليزيَّة إليزابيث ستون Elizabeth Stone: «عندما علم البابا بموت محمد الفاتح أمر بصلوات الشكر لمدَّة ثلاثة أيَّامٍ متتالية. لقد استراحت النصرانية من أشدِّ أعدائها صعوبة»[1]!
ويقول المؤرخ الأميركي چون فريلي: «عمَّت الألعاب الناريَّة، وأصوات أجراس الكنائس، كلَّ شمال أوروبا؛ لقد مات التركي العظيم، ولا تحتاج أوروبا إلى الخوف بعد اليوم»[2]!
ثم لخَّص المؤرِّخ الإنجليزي استيفين تيرنبول رؤية الأوروبيِّين لموت الفاتح بقوله: «لم تكن القوَّات متعدِّدة الجنسيَّة التي يُحاول البابا أن يُكَوِّنها لتحفظ إيطاليا؛ إنَّما الذي حَفِظَ إيطاليا على وجه الحقيقة هو موت محمد الفاتح»[3]!
ويقول الدبلوماسي الفرنسي الشهير فيليب دي كومينز Philippe de Commines في مذكِّراته: «إنَّ أعظم ملوك أوروبا في القرن الخامس عشر هم: محمد الفاتح، ولويس الحادي عشر ملك فرنسا، وماتياس ملك المجر»[4]، والمهمُّ أنَّه يقول هذا الكلام مع أنَّه يعمل في البلاط الملكي للملك الفرنسي لويس الحادي عشر[5]، وهذا الجمع في العظمة بين الفاتح والملك الفرنسي يُمكن أن يُسبِّب له حرجًا، لكنَّها كانت الحقيقة التي لا يُمكن إخفاؤها.
أما المؤرِّخ الإيطالي، والأستاذ بجامعة كوين Queen الكنديَّة، أنتوني دي إيليا Anthony D'Elia فيقول: «إنَّ انتصارات محمد الفاتح السريعة وطموحاته الثقافيَّة، حضَّت الكُتَّاب النصارى على مقارنته بالإسكندر الأكبر»[6].
ويقول المؤرخ الأميركي ديڤيد ديل تيستا David Del Testa وآخرون: «محمد الفاتح هو المؤسِّس الحقيقي للإمبراطوريَّة العثمانيَّة، وهو الذي ثبَّت دعائمها في شرق البحر المتوسط، كما أنَّه هو الذي رسَّخ الشخصيَّة السياسيَّة والحضاريَّة للإمبراطوريَّة التي ظلَّت باقيةً حتى القرن العشرين»[7].
ويقول المؤرِّخ المصري المملوكي ابن إياس: «جاءت الأخبار بوفاة السلطان المعظَّم، المفخَّم، المجاهد، الغازي، ملك الروم، وصاحب القسطنطينية العظمى، وهو محمَّد بن مراد بن أبي يزيد بن عثمان، وكان ملكًا جليلًا معظَّمًا، ساد على بني عثمان كلِّهم، وانتشر ذكره بالعدل في سائر الآفاق، وحاز الفضل، والعلم، والعدل، والكرم الزائد، وسعة المال، وكثرة الجيوش، والاستيلاء على الأقاليم الكفريَّة، وفتح الكثير من حصونها وقلاعها...»[8]!
الإنجازات الحضارية، وملامح الشخصية للفاتح العظيم
ليس من السهل أن نُعطي نظرةً إجماليَّةً على حياة محمد الفاتح رحمه الله؛ وذلك لغزارة الأحداث، وكثرة المعلومات، وأهميَّة المواقف، ولكني سأُشير هنا إلى «بعض» الإنجازات المهمَّة في حياته، مع إدراكنا لحاجتنا لإفراد مساحاتٍ أكبر في أبحاثنا ودراساتنا لكي نستوعب تفاصيل حياة هذا الفاتح العظيم.
تحويل الدولة العثمانية إلى إمبراطورية:
يُعتبر محمد الفاتح رحمه الله هو المحوِّل الحقيقي للكيان العثماني الكبير من دولةٍ أو مملكةٍ إلى إمبراطوريَّة؛ فالإمبراطوريَّة في التعريفات السياسيَّة هي عبارةٌ عن كيانٍ كبيرٍ يضمُّ عدَّة أمم، وهذه الأمم تختلف عن بعضها البعض في اللغة، والعرق، والثقافة، والدين[9]، ومع أنَّ الدولة العثمانية كانت تضمُّ أممًا مختلفةً قبل محمد الفاتح إلَّا أنَّ كثيرًا من هذه الأمم كانت مجرَّد تابعٍ للدولة العثمانيَّة دون سيطرةٍ حقيقيَّةٍ قويَّة من السلطة المركزيَّة المتمثِّلة في قيادة الدولة، أمَّا الفاتح رحمه الله فهو الذي حوَّل الدولة إلى إمبراطوريَّة بإحكام السيطرة على هذه الأمم، وذلك بتحويل عددٍ كبيرٍ منها إلى الحكم المباشر بدلًا من مجرَّد التبعيَّة، كما أنَّه أدخل الحكم العثماني إلى مناطق أخرى كثيرة لم يدخلها العثمانيُّون قبل ذلك، وبحساب المساحات التي تَسَلَّمها الفاتح من أبيه نجد أنَّها حوالي ستمائة وخمسين ألف كم2، بينما وصلت مساحة الإمبراطوريَّة بعد وفاة الفاتح، وبعد ثلاثين سنةً من الجهاد والفتوح، إلى حوالي مليون وسبعمائة وسبعة وثمانين ألف كم2؛ أي أنَّه زاد المساحة إلى ما يقترب من ثلاثة أضعاف مساحتها الأولى، ولكن ليس هذا هو المهمُّ فقط، بل الأهم -كما ذكرنا- هو قوَّة إحكام السيطرة على الكيان كلِّه، ممَّا يُعطيه وصف «الإمبراطوريَّة» بحق. لقد صارت الإمبراطوريَّة العثمانيَّة في عهد الفاتح هي أكبر كيانٍ سياسيٍّ في أوروبا من ناحية المساحة وعدد السكان[10]، متجاوزة في ذلك الإمبراطوريَّة الرومانيَّة المقدَّسة (النمسا- ألمانيا)، ومملكة فرنسا، ومملكة المجر، ومملكة بولندا، ومملكة إسبانيا، ومملكة إنجلترا، وغيرها من الكيانات الأخرى.
إنَّ الاستقرار الداخلي الذي رأيناه في إمبراطوريَّة الفاتح أمرٌ لافتٌ للنظر حقًّا، خاصَّةً إذا ما نظرنا إلى التركيبة السكانيَّة العجيبة لهذه الإمبراطوريَّة الكبيرة؛ ففيها الأتراك المسلمون بشتَّى قبائلهم، وفيها المغول المسلمون ذوو الطباع الآسيويَّة الروسيَّة، وفيها اليونانيُّون الأرثوذكس، وهم عرقٌ خاصٌّ له جذورٌ تاريخيَّةٌ متميِّزة، وفيها البلغار السلاڤ، وهم أرثوذكس كذلك، ولكن يتبعون كنائس أخرى مختلفة عن اليونانيِّين، وفيها البوسنيُّون أصحاب الديانات المتعدِّدة، من فرنسيسكانية وبوجوميليَّة وغيرها، وفيها الألبان مع كلِّ التاريخ العدائي مع الدولة العثمانيَّة، وهم أرثوذكس وكاثوليك، وفيها الصربيُّون الأرثوذكس الذين كانوا على مقربةٍ من إنشاء إمبراطوريَّةٍ خاصَّةٍ بهم لولا ظهور الدولة العثمانيَّة، وفيها كذلك الكاثوليك الغربيُّون متمثِّلون في أهل مقاطعة أبوليا الإيطاليَّة، وفي إمارة ناكسوس في بحر إيجة، وبالإضافة إلى كلِّ ذلك فهناك الرومانيُّون وهم عرقيَّة منفصلة لها تاريخ مستقل، وهم وإن كانوا أرثوذكسًا، إلَّا أنَّ ولاءهم للمجر الكاثوليكيَّة، ممَّا جعل لهم طابعًا مختلفًا عن بقيَّة شعوب المنطقة. إنَّ النظر إلى هذا التنوُّع الفريد في تركيبة السكان لَيُعطي فكرةً عن صعوبة تكوين مثل هذه الإمبراطوريَّة الكبيرة.
ولم يكن التمدُّد العثماني في هذه «الأمم» التي تُحيط بالدولة العثمانيَّة ناشئًا من فراغ؛ بل كان الجيش العثماني في حالةٍ قويَّةٍ للغاية، بل من أقوى الجيوش العالميَّة في حقبة الفاتح رحمه الله، وهذا ما مكَّنه من تحقيق الطموحات الكبرى. يقول المؤرِّخ الأميركي العسكري، والمتخصِّص في التاريخ العسكري للدولة العثمانيَّة، إدوارد إريكسون Edward Erickson: «إنَّ وصول محمد الثاني (الفاتح) للعرش كان حجر الزاوية في تاريخ العسكريَّة العثمانيَّة، فإنَّ محمَّدًا لم يُحوِّل فقط الدولة العثمانيَّة إلى إمبراطوريَّة، ولكنَّه حوَّل الجيش بشكلٍ حاسمٍ إلى قوَّةٍ مركزيَّةٍ فاعلة، مع التخلُّص من الوحدات التقليديَّة العشوائيَّة»[11]. ويقول في موضعٍ آخر: «على الرغم من المشكلات الكثيرة التي واجهها جيش محمد الثاني فإنَّه كان يُحارب بكفاءةٍ أعلى من أيِّ جيشٍ مُعادٍ له»[12].
لقد كان هذا الجيش القوي نتاج عملٍ حثيثٍ من السلطان الفاتح ورجال العسكريَّة العثمانيَّة بل يمكن القول: إنَّه كان نتاج عمل العسكريِّين المتميِّزين في أوروبا كلِّها! ومرجع هذا الكلام أنَّ السلطان الفاتح رحمه الله كان حريصًا على الاستفادة من كلِّ بحثٍ علميٍّ عسكريٍّ في أيٍّ قطرٍ من أقطار أوروبا، وما أجمل ما وصف به المؤرِّخ المجري جابور أجوستون Gábor Ágostonمحمدًا الفاتح وتعامُله مع الأبحاث العسكريَّة عندما قال: «لقد اشتُهر السلاطين العثمانيُّون بتقدير المهارات والمعرفة، خاصَّةً لو كانت هذه المهارات ذات علاقةٍ بالأمور العسكريَّة، ولقد بوركت الدولة العثمانيَّة بحُكَّامٍ أصحاب مواهب فوق العادة، ولقد كان الاهتمام الشخصي للسلطان محمد الثاني بالأمور العسكريَّة معروفًا في أوروبا كلِّها، إلى درجة أنَّ الباحثين العسكريِّين الأوروبيِّين كرَّسوا أبحاثهم له، بل كان الحكَّام الأوروبيُّون الذين يُريدون دعمًا منه، أو مجرَّد تكوين علاقة جيِّدة معه، يبعثون له خبراءهم العسكريِّين ليطَّلع على أبحاثهم»[13].
وما قلناه عن الجيش العثماني نقوله كذلك على البحريَّة العثمانيَّة؛ فلقد كان الأسطول العثماني عند اعتلاء محمد الفاتح للعرش لا يمتلك إلَّا ثلاثين سفينةً عسكريَّةً بالإضافة إلى بعض القطع الصغيرة المساعدة، ولكن بعد ثلاثين سنةً صار هذا الأسطول مكوَّنًا من مائتين وخمسين سفينة حربيَّة كبيرة بالإضافة إلى خمسمائة سفينة نقل[14]!
لقد كانت إمبراطوريَّةً بمعنى الكلمة!
ثم إن هناك نقطةً مهمَّةً ينبغي أن نُشير إليها، وهي أنَّ بعض الزعماء الأقوياء حوَّلوا دولتهم من مملكةٍ إلى إمبراطوريَّةٍ حقيقيَّةٍ تضمُّ عددًا من الأمم، ولكن هذا التحويل لم يَدُمْ طويلًا، بل انهار بعد عدَّة سنوات أو عقود، لكن أن يبقى هذا التحويل عدَّة قرون فهذا أمرٌ يحتاج إلى تفسير!
الواقع أنَّ الحالة الأولى التي تبقى فيها الإمبراطوريَّة قائمة لعدَّة عقود فقط تكون معتمدة في الأغلب على قوَّة السلاح والجيش فقط، أمَّا الإمبراطوريَّات التي تستمرُّ عدَّة قرونٍ فهي تحتاج إلى فكرٍ خاصٍّ يسمح لها بالبقاء هذه الفترات الطويلة، وهذا الفكر له سماتٌ خاصَّةٌ كان الفاتح حريصًا عليها كلِّها، ونستطيع أن نميِّز من هذه السمات ثلاث:
1- الانفتاح على الثقافات الأخرى:
الفكر المنغلق قد ينجح في قيادة إمارة أو مملكة، ولكنه لا ينجح البتَّة في قيادة إمبراطوريَّة، لأنَّ الإمبراطوريَّة بطبيعتها مرَّكبة من أعراق وأديان مختلفة، فلو اقتصر حكَّامها على نوعٍ معيَّنٍ من الثقافات خسروا جانبًا كبيرًا من إمكانات إمبراطوريَّتهم، بل سيدفع «تهميش» الحضارات والثقافات الأخرى شعوبها إلى محاولة الانفلات من قبضة الإمبراطور الذي يتجاهل ثقافتهم، ولقد كان السلطان الفاتح من أقدر الحكَّام على الانفتاح على الثقافات الأخرى والاستفادة منها، فقد كان مهتمًّا بالثقافة اللاتينيَّة، ودرس تاريخ روما والغرب، وكان يقرأ القصائد اللاتينيَّة لشعراء البندقية وچنوة[15]، وبلغ من اهتمامه بالمخطوطات اللاتينيَّة أن طلب من جمهوريَّة راجوزا (دوبروڤنيك) أن تدفع الجزية في إحدى السنوات مخطوطات بدلًا من المال[16]! وكان الفاتح مهتمًّا كذلك بالثقافة اليونانيَّة[17]، وكان يحتفظ في مكتبته باثنين وأربعين كتابًا باللغة اليونانيَّة، كان أكثر من ثلثها في الجغرافيا، وثمانية في التاريخ، وستَّة في الفلك والرياضيَّات، والبقيَّة في علومٍ أخرى[18]، وكان الفاتح مواظبًا على قراءة مؤلَّفات المؤرِّخ اليوناني، وكاتب السِّيَر المعروف، بلوتارك Plutarch، الذي كان يكتب عن كبار الفاتحين في العالم[19]. وهذا ما دفع المؤرِّخ الأميركي توم سيزجوريتش Tom Sizgorich إلى أن يقول: «ينبغي أن يُتَذَكَّر محمد الثاني بأنَّه راعٍ للفنون، وبفكره المنفتح وبتذوُّقه للآداب العالميَّة...»[20].
2- إنشاء نظام «المِلَل» وتكوين المحاكم الخاصَّة بكلِّ دين:
كان الفاتح رحمه الله يُدرك أنَّ إمبراطوريَّته مكوَّنةٌ من شعوبٍ مختلفةٍ تدين بأديانٍ كثيرة، ولذلك آثر أن تلجأ كلُّ طائفةٍ دينيَّةٍ إلى محاكم خاصَّةٍ تحكم بقواعد وقوانين الدين الذي ينتمون إليه، فهذا سيدفعهم إلى الاستقرار والهدوء في الإمبراطوريَّة[21]، وتبعًا لهذا النظام صار للأرثوذكس محاكم خاصَّة، وكذلك للأرمن، و-أيضًا- لليهود[22]، وعندما ظهرت طوائف جديدة في الدولة العثمانيَّة بعد فتح البوسنة، وهي طوائف الكاثوليك الفرنسيسكان أعطاها الفاتح الحقوق نفسها[23] ممَّا أدَّى إلى استقرارٍ كبيرٍ في الكيان الداخلي للدولة العثمانيَّة. وتُعلِّق الدكتورة الأميركيَّة أندريا ستانتون Andrea Stanton، والأستاذة بقسم الدراسات الدينيَّة بجامعة دنڤر Denver، على هذا النظام فتقول: «أدَّى الاعتراف بالمِلَل ككيانات شرعيَّة إلى دمج هذه الكيانات في البنيان الرئيس للإمبراطوريَّة، وصار قادة هذه الملل حلفاء طبيعيِّين للحكومة، وصارت كنائسهم مندمجة في البناء السياسي للدولة كمؤسَّسات دينيَّة رسميَّة»[24].
بهذا القانون صارت الدولة العثمانية مأوًى آمنًا لكلِّ المضطهدين في الأرض، ولقد أرسل الفاتح إلى رئيس جمهوريَّة البندقية يطلب منه إعادة يهود البندقية الذين خرجوا من إسطنبول عند فتحها إذا رغبوا في العودة[25]، بل فعل أكثر من ذلك؛ إذ طلب من حاخام مدينة إدرنة، وهو إسحاق زارفاتي Isaac Tzarfati، أن يُراسل يهود أوروبا، وخاصَّةً وسط أوروبا، ليدعوهم إلى القدوم والحياة في الدولة العثمانيَّة[26]، وقد نقل المؤرِّخ الأميركي ستانفورد شو Stanford Shaw نسختين من هذه الخطابات التي أرسلها زارفاتي، وفيها قال: «روى لي الحاخام زالمان Zalman وصديقه الحاخام ديڤيد كوهين David Cohen، كلَّ المحن التي يتعرَّض لها إخواننا وأبناء إسرائيل الذين يعيشون في ألمانيا، وذكروا لي التعذيب الأشد من الموت، والشهداء، والنفي...»، ثم ذكر الحاخام ألوانًا من المعاناة، ثم ذكر كيف رأى هذان الحاخامان الفَرْق في المعاملة في الدولة العثمانيَّة عندما جاءا هاربين إلى زارفاتي... يقول زارفاتي: «لقد رأينا هنا السلام، وراحة البال، والخير الوفير...»، ثم يقول: «لو علم يهود ألمانيا بمعشار الرحمات التي أنزلها الربُّ على اليهود الذين يعيشون في أرض الدولة العثمانيَّة فإنَّهم لن يستريحوا حتى يلحقوا بهم هنا»[27]!
هذه شهاداتٌ تُكتب بماء الذهب في حقِّ هذا السلطان العظيم محمد الفاتح، وفي حقِّ الدولة العثمانيَّة بشكلٍ عامٍّ، بل في حقِّ أمَّة الإسلام التي كانت مأوًى للمعذَّبين في الأرض ولو كانوا من غير ملَّتهم ولا أعراقهم..
3- إعطاء المراكز القياديَّة الكبرى لكافَّة الأعراق دون التقيُّد بالعرق التركي:
وهذه إضافةٌ مهمَّةٌ للقائد الحكيم محمد الفاتح! فقد اعتادت الملكيَّات المختلفة على إعطاء المراكز القياديَّة الكبرى في الدولة إلى أبناء العائلة الحاكمة، ولكن إدارة الإمبراطوريَّات أمرٌ مختلف! فالتنوُّع الضخم في الأعراق والجنسيَّات يُحتِّم على قائد هذا الكيان الضخم الاستعانة بكافَّة هذه الأعراق في قيادة إمبراطوريَّته، وإلَّا فالقلاقل والاضطرابات لن تنتهي أبدًا؛ لهذا كان الفاتح جريئًا للغاية في إعطاء المراكز الكبرى في دولته لأصحاب الكفاءة دون النظر إلى عرقيَّتهم أو أصولهم، ولهذا جاءت تركيبة القيادات في دولته عجيبةً في ذلك الزمن، ولافتةً للنظر إلى كلِّ مؤرِّخ، ويكفي أن نُشير إلى أن خمسةً من الستة الذين شغلوا مركز الصدارة العظمى (رئاسة الوزراء)، وهو أعظم مركز قيادي في الإمبراطوريَّة بعد مركز السلطان، كانوا غير أتراك، بل إنَّ أصول هؤلاء الخمسة نصرانيَّة، وإن كانوا جميعًا من المسلمين، وجديرٌ بالذكر أنَّ هذا الأمر، وهو ولاية غير الأتراك، كان مكروهًا عند الأسر التركيَّة النبيلة[28]، ولكن هؤلاء لم يُدركوا الفارق الكبير بين إدارة إمارة أو مملكة، وبين إدارة إمبراطوريَّة عظمى كالتي أسَّسها الفاتح رحمه الله، وكان النظام الذي أقرَّه الفاتح نافعًا للدولة لعدَّة قرون.
إسلامية الفاتح:
لم يكن الفاتح رحمه الله مجرَّد قائدٍ عسكريٍّ يُحقِّق نجاحات، ويُوَسِّع من أملاك دولته حتى يُحوِّلها إلى إمبراطوريَّة، ولكنَّه كان في المقام الأوَّل مجاهدًا في سبيل الله يُحقِّق المجد لأمَّة الإسلام قبل أن يُحقِّقه لنفسه أو للعثمانيِّين، ولئن كان بعض القادة يستطيعون ادِّعاء هذه الإسلاميَّة في موقفٍ أو مواقف فإنَّهم لا يستطيعون فعل ذلك على مدار ثلاثين سنة متَّصلة إلَّا إذا كان اتِّجاههم هذا صادقًا ومقصودًا.
ولقد كان الفاتح رحمه الله حريصًا على إظهار هذا المعنى في كلِّ حياته، ففي عام 1453م، في بداية أيَّام حكمه، شاهد العَلَم العثماني يُرفرف فوق أحد أبواب القسطنطينية، فعلم أنَّ عمليَّة الفتح قد نجحت، فترجَّل عن حصانه، وخرُّ ساجدًّا لله حمدًا له على هذا النجاح العظيم[29]، وعندما وصل إلى كنيسة آيا صُوفيا ترجَّل ثانيةً عن جواده، وأخذ حفنةً من التراب نثرها فوق عمامته خضوعًا لله، وإظهارًا للتواضع له[30]! فهو يُعلن للجميع، من المسلمين والبيزنطيِّين، أنَّ الذي حقَّق هذا النصر هو الله عز وجل وليس محمدًا الفاتح أو جيشه، وهذه -والله- أبلغ دعوة، وأعظم تعريفٍ بالإسلام. كان هذا في أوائل سنوات حكمه، ثم رأيناه في آخر حملاته العسكريَّة، في عام 1478م في ألبانيا، وبعد خمسٍ وعشرين سنة من الموقف الأوَّل، يقول عندما وصله نبأ فتح ليزهي Lezhe: «هذا نصرٌ أعطاه الله لي»[31]! فينسب النصر لله وليس لنفسه، وبين هذين الموقفين عشرات ومئات المواقف من النوع نفسه.
ولم تكن هذه المشاعر الإسلامية الفيَّاضة في أرض القتال فقط، بل دفعته هذه الروح الإسلاميَّة إلى إحاطة نفسه بالعلماء الشرعيِّين، ولقد كانت ولايته بداية عهدٍ جديدٍ في الدولة العثمانيَّة؛ حيث أنفق الفاتح استثمارات كبرى تهدف إلى جذب العلماء من العالم الإسلامي إلى إمبراطوريَّته[32]، وكان الفاتح يستمتع بصحبة العلماء، ويحرص على تنظيم المحاورات الشرعيَّة بينهم أمامه[33]، وعندما بنى مسجده الشهير في إسطنبول أحاطه بثمانية مدارس دينيَّة فقهيَّة لتستوعب العلماء وطلبة العلم من كلِّ مكان[34]، ولقد لفت اهتمامُ الفاتح بالأمور الشرعيَّة نظر المؤرِّخين حتى قالت المؤرِّخة الإنجليزيَّة كارولين فينكل Caroline Finkel: «إنَّ التصميم الذي اختاره الفاتح لمـُجَمَّع المسجد والمدارس هو تصميمٌ مقصود، حيث جعل المسجد في الوسط محاطًا بالمدارس حوله ممَّا يُعطي الانطباع بسيطرة العلوم الشرعيَّة الدينيَّة على مسار الدولة»[35]. ولقد كان هذا الالتزام بالإسلام، والاهتمام بالدين لافتًا لأنظار المؤرخين المعاصرين له، مما يوضِّح تميُّزه في هذا الاتجاه عن بقيَّة الأمراء والقادة المسلمين في زمانه، فيقول زين الدين الملطي: «وانتشر عدله في الآفاق، مع العقل والتديُّن، والمعرفة والفضل الغزير، والعلم، والكرم»[36]، وقال قطب الدين النهروالي: «أعظم الملوك اجتهادًا، وأقواهم فؤادًا، وأكثرهم توكُّلًا على الله واعتمادًا»[37]! وقال العالم الكبير الشوكاني: «وكان مائلًا إلى العلماء مقرِّبًا لهم، يخلطهم بنفسه ويأخذ عنهم في كلِّ علم، ويُحسن إليهم، ويستجلبهم من الأقطار النائية، ويُراسلهم، ويفرح إذا دخل مملكته واحدٌ منهم»[38]. أمَّا العَّلامة المصري الشهير الإمام السيوطي فقد أوجز فوصفه بأنَّه «محيي الدين»[39].
وكان الفاتح رحمه الله حريصًا على بناء المساجد الكثيرة في ربوع الدولة العثمانية، وعلى سبيل المثال أحصى المؤرخ التركي إرمال نورﭼاErmal Nurja ، الأستاذ بجامعة معمار سنان، خمسة مساجد بناها الفاتح في ألبانيا وحدها، وذلك مع صعوبة عملية الفتح في ألبانيا، وهذه المساجد هي: مسجد قرية كوركا Korca، ومسجد قلعة كرويه Kruje، ومسجد قلعة شقودرة Shkodër، ومسجد مدينة كانينا Kanina، ومسجد قلعة الباسان Elbasan[40]، وما قلناه عن ألبانيا نقوله كذلك عن اليونان، والبوسنة، وصربيا، وغيرها من الولايات العثمانية، وذلك حتى يوضِّح للشعوب أن الجيش الفاتح جيشٌ مسلمٌ في الأساس وليس عثمانيًّا أو تركيًّا.
وأهمُّ مما سبق أن القوانين التي وضعها رحمه الله كانت كلُّها منبثقةً من الشريعة، وكان الفاتح يرجع إلى العلماء الشرعيِّين دومًا ليُساعدوه في صياغة مادَّة القانون ليكون متوافقًا مع القرآن والسنة[41]، وقد فهم ذلك كلُّ من قرأ قانون الفاتح، بل فهمه كذلك الكتَّاب الغربيُّون إذ علموا أن هذا التشريع هو تشريعٌ إسلاميٌّ صِرف، وليس مجرَّد قوانين ابتكرها الفاتح أو غيره من القانونيِّين المعاصرين له[42].
الفاتح رجل دولة:
إنَّ هناك فارقًا ضخمًا بين قيادة الجيوش وقيادة الشعوب، وعادةً لا يُجيد العسكري الذي عاش عمره في ساحات القتال قيادةَ الشعوب، كما لا يستطيع المدنيون عادةً أن يقودوا الجنود والجيوش، أمَّا أن يجمع قائدٌ بين مَلَكَات القيادة العسكريَّة، ومَلَكَات الإدارة السياسيَّة فإنَّ هذا نادرٌ جدًّا في التاريخ والواقع! إنَّ شخصيَّةً كهذه لَشخصيَّةٌ محيِّرةٌ حقًّا! ولهذا يقول المؤرِّخ الأميركي كينيث سيتون: «إنَّ شخصيَّة الفاتح ظلَّت لغزًا لمعاصريه»[43]! فالجمع بين الملكات العسكريَّة والمهارات السياسيَّة يعني الجمع بين المتناقضات؛ أي الجمع بين الشدَّة واللين، والصلابة والمرونة، والقدرة على الإصرار والحسم، مع إمكانيَّة التفاوض والوصول إلى حلٍّ وسط! إنَّها تركيبةٌ عجيبةٌ لا تتوفَّر في كثيرٍ من القادة، ولهذا يقول المؤرِّخ الأميركي تيموثي جريجوري Timothy Gregory: «إنَّ شخصيَّة وسياسات محمد الفاتح من الأمور التي تناولها المؤرِّخون باستفاضةٍ واسعة، فمِنَ الواضح أنَّ أعماله لها من التَّبعات ما تجاوز حدود زمنه، وليس المقصود فقط فتحه للقسطنطينية؛ إنَّما في المؤسَّسات التي ظلَّت تحكم البلقان لأكثر من أربعمائة سنة»[44].
ولقد ظهرت صفات رجل الدولة بوضوح في شخصية الفاتح رحمه الله، فمنها مثلًا امتلاكه لرؤيةٍ مستقبليَّةٍ واضحة لنفسه ولأمَّته؛ فقد كان يرى مستقبل الدولة العثمانيَّة كإمبراطوريَّةٍ وليس كدولةٍ عاديَّة، وعَمِل بجدِّيَّةٍ من أجل تحقيق هذه الرؤية، وكان يرى أن الدولة العثمانيَّة سترث كلَّ أملاك الدولة الرومانيَّة الشرقيَّة القديمة، وسعى بجدِّيَّةٍ من أجل تحقيق هذه الرؤية، وكان يرى أنَّ جيوشه ستدخل روما فاتحة، وسعى من أجل تحقيق هذه الرؤية بكلِّ جدِّيَّةٍ كذلك.
ومن صفات «رجل الدولة» -أيضًا- القدرة على التفكير المنهجي؛ بمعنى أنَّه لا عشوائيَّة في قراراته أو أعماله، إنَّما يُفكِّر بشكلٍ منطقي يُمكِّنه من وضع خطواتٍ محدَّدةٍ مرتَّبةٍ بشكلٍ بديعٍ للوصول إلى الهدف النهائي، فعلى سبيل المثال كان الفاتح يُريد تحقيق النصر على استيفين الثالث أمير البغدان، ولم تكن قوَّة الفاتح تسمح بذلك، فكان الحلُّ هو ضمُّ قوَّة خانات القرم المسلمين إلى القوَّة العثمانيَّة، فعندها يُمكن أن يتحقَّق الهدف، ولكن قوَّة خانات القرم مرتبطةٌ بقوَّة جمهوريَّة چنوة التي تُسيطر على موانئ القرم، وهي قوَّةٌ متمكِّنةٌ في الجانب البحري، ولن يهزمها إلَّا أسطولٌ متمكِّنٌ، فكان التفكير المنهجي يقضي بإعداد أسطولٍ قويٍّ أوَّلًا، ثم الصدام مع چنوة ثانيًا، وبعد الانتصار عليها تُضَمُّ خانيَّة القرم ثالثًا، ثم رابعًا وأخيرًا تُحَارَب إمارة البغدان بمساعدة خانات القرم، فعندها يُمكن تحقيق النصر! وهذا ما حدث تمامًا من خلال هذه النقاط الأربع المنهجيَّة، وبها انتصر الفاتح على البغدانيِّين في معركة الوادي الأبيض عام 1476م.
ومن صفات رجل الدولة -أيضًا- أنَّه لا يُسْتَدرج إلى خطواتٍ مفتوحةٍ له، لعلمه أنَّ هذا الاستدراج قد يُضيع على الدولة نجاحاتٍ تحقَّقت، مع أنَّ إغراءات الاستدراج قد تكون كبيرةً للغاية، والأمثلة على ذلك كثيرةٌ جدًّا في حياة الفاتح رحمه الله؛ فقد وجدناه يُحقِّق النصر على دراكولا الثالث أمير الإفلاق في عام 1462م، فيهرب دراكولا إلى الحدود المجريَّة، ومع رغبة الفاتح الحثيثة في الإمساك بدراكولا لكونه ارتكب عددًا كبيرًا من المذابح ضدَّ المسلمين إلَّا أنَّه يكبح هذه الرغبة التي قد تُفقده نتائج النصر، وفعل الشيء نفسه مع السلطان أوزون حسن؛ فقد انتصر عليه انتصارًا ساحقًا في عام 1473م، ومع أنَّ الطريق كان مفتوحًا لإيران إلَّا أنَّ الفاتح لم يُسْتَدرج للوقوع في هذا المستنقع؛ ليس فقط لتجنيب قوَّاته معارك خاسرة، ولكنَّه -أيضًا- لتجنُّب الدخول في معارك مع المسلمين تُشغله عن فتوحات أوروبا.
ولا يتَّسع المجال حقيقةً لذكر صفات الفاتح السياسية والإدارية؛ فقد كانت كلُّ مواقف حياته دالَّةً على تميُّزه في هذا المجال، ولكن أختم هذه النقطة بشهادتين غربيَّتين جميلتين تشهدان بالتميُّز الإداري للفاتح، أمَّا الأولى فهي للمؤرخ الإنجليزي اللورد كينروس Lord Kinross حيث يقول: «إن السلطان الشاب الذي امتلك موهبة الإدارة من خلال تجاربه السابقة، وتمتَّع بسعة الأفق من خلال الاطلاع على المؤلفات التاريخية، وتميَّز بالقدرة على الإنجاز، امتلك -أيضًا- مقوِّمات الغازي العالمي مثل الإسكندر الأكبر والقياصرة العظام»[45]. وأمَّا الشهادة الثانية فهي للمؤرخة الأميركية ماري باتريك Mary Patrick التي تقول: «كان الفاتح يُظهر حذقًا كبيرًا، وإدارةً طيِّبةً في تسيير مقدَّرات البلاد، وكان جيشه مدرَّبًا ومجهَّزًا أحسن تجهيز، وهو فوق هذا كان يُفكِّر في مصالح شعبه أكثر ممَّا كان يُفكِّر أيُّ سلطانٍ آخر؛ فقد بنى المساجد، والمستشفيات، والكلِّيَّات الإسلاميَّة»[46].
قانون الفاتح:
كان محمد الفاتح هو أوَّل من أمر بكتابة قانونٍ واضحٍ ومنظَّمٍ للدولة العثمانيَّة[47]، فوفَّر التناسق الكامل في إدارة دولته، فلا يُدار قطاعٌ فيها بقانونٍ ما، ويُدار قطاعٌ آخر بقانونٍ مختلف، وفي الوقت نفسه ضَمِن الفاتح بهذا القانون أن يسير أولاده وأحفاده ومَنْ يقود الدولة بعد ذلك على الطريق نفسه، فتتحقَّق غايات الدولة ولا تتشتَّت، ومن العجيب أن نعرف أنَّ هذا القانون الذي أمر الفاتح بصياغته ظلَّ معمولًا به في الدولة العثمانيَّة -مع إضافاتٍ يسيرة- إلى عام 1839م[48]! أي ما يقرب من أربعة قرونٍ بعد زمن الفاتح! وبشكلٍ عامٍّ يُمكن القول: إنَّ هذا القانون كان مكوَّنًا من ثلاثة أقسامٍ رئيسة: الأوَّل منها يتحدَّث عن صلاحيَّات رجال الدولة، والثاني يُناقش عادات الدولة واحتفالاتها، والثالث يهتمُّ بالعقوبات وكذلك بموارد الدولة[49]، وكان هذا القانون مبنيًّا على قواعد الشريعة الإسلاميَّة، وما جُمِع من قوانين سابقة في الدول: العباسيَّة، والإلخانيَّة، والسلجوقيَّة، والعثمانيَّة[50]، ومع اهتمام الفاتح بالحفاظ على هويَّة الدولة الإسلاميَّة، إلَّا أنَّ فكره المنفتح لم يمنعه من الاستفادة من قوانين الدول النصرانية التي فتحها طالما أنَّها لا تتعارض مع الشريعة، ولقد ذكر المؤرِّخ التركي يونس كوتش Yunus KOÇ أنَّ السلطان محمدًا الثاني لم يتردَّد عندما فتح بعض المقاطعات الصربيَّة المشتملة على مناجم كثيرة في إقرار قوانين الجمارك والمعاملات الخاصَّة بهذه المناجم، وفَعَل الشيء نفسه مع قوانين الريِّ والزراعة عندما ضمَّ قونية عاصمة إقليم قرمان إلى دولته[51].
اقتصاد دولة الفاتح:
يأخذ بعض المؤرِّخين الانطباع أنَّ الدولة العثمانيَّة في زمن الفاتح كانت تُعاني من مشاكل اقتصاديَّة كبرى، وذلك لكثرة الإنفاق في المجالات العسكريَّة، ولكن الحقيقة غير ذلك.
نعم كان الفاتح يُنفق على الجيش والمعارك إنفاقًا غير محدود، فهذه كانت إحدى أكبر أولويَّات الدولة في ذلك الوقت، خاصَّةً مع وجود عددٍ كبيرٍ من الأعداء يتربَّصون بالدولة، وكان الفاتح يُقاتلهم بجيوشٍ ضخمةٍ تحتاج إلى دعم، وتموين، وسلاح، ويحتاج الفاتح إلى تصنيع مدافع كبيرة، وإلى شراء بارود، وإلى إنشاء أساطيل بحريَّة، وإلى بناء قلاع وحصون، وإلى إصلاح طرقٍ يُمكن أن تستوعب حركة الجيوش العملاقة، كما يحتاج إلى إنفاق أموالٍ كبيرةٍ على البحوث العلميَّة العسكريَّة، وعلى شراء الأبحاث التي تظهر في دول أوروبا الأخرى، بل على إغراء المهندسين الأوروبيِّين أنفسهم للقدوم والحياة في الدولة العثمانيَّة، وكذلك يحتاج إلى شراء معلومات استخباراتيَّة يعرف بها دقائق السياسة الأوروبِّيَّة. إنَّنا نتحدَّث عن ميزانيَّة حربٍ كبيرة، ولم يكن هذا أمرًا مؤقَّتًا، إنَّما كان مستمرًّا في كامل فترة حكم الفاتح. ولعل بعض الأمثلة السريعة تُوضِّح لنا حجم هذا الانفاق الضخم؛ ففي بند القلاع فقط بنى الفاتح عددًا كبيرًا منها في مختلف أنحاء الدولة العثمانية، مثل قلعة مدينة بودجوريتسا Podgorica، وهي عاصمة جمهورية الجبل الأسود الآن[52]، وقلعة الباسان Elbasan في ألبانيا[53]، وقلعة جابيلا Gabela في الهرسك[54]، وقلعة إزمير Izmir البحرية في الأناضول[55]، وقلعة قرمان على جبال طوروس[56]، هذا بخلاف القلاع العظيمة على المضايق البحرية، وهي قلاع روملي حصار، وكِليد البحر، والقلعة السلطانية، فضلًا عن بنائه لقلعة عظيمة في القسطنطينية ذاتها، وهي قلعة الأبراج السبعة Yedikule Fortress[57]. وفي بند الجسور المهمَّة التي تخدم حركة الجيوش الكبيرة بنى الفاتح جسر كادين موست Kadin Most على نهر ستروما Struma ببلغاريا، وهو من أقدم الجسور الحجرية في بلغاريا، وكان هذا في عام 1470م[58]، وجسر الفاتح في سكوبيه Skopje بمقدونيا عام 1467م[59]، وبنى عدَّة جسورٍ على نهر ميلياتسكا Miljacka في سراييڤو Sarajevo، عام 1470م[60]، ومع كلِّ هذا الإنفاق العسكري لم تكن الدولة في عهد الفاتح ضعيفةً اقتصاديًّا، بل على العكس من ذلك تمامًا!
لنقرأ سويًّا ما كتبته المؤرِّخة الإنجليزية كارولين فينكل، وهي تصف جانبًا من جوانب الاقتصاد في عهد الفاتح رحمه الله.. تقول كارولين: «كانت الإمبراطوريَّة العثمانيَّة التي صنعها محمد الفاتح عبارةً عن كتلةٍ كبيرةٍ من الأراضي والبحار تتربَّع على القلب من عدَّة شبكاتٍ تجاريَّةٍ عظيمةٍ في هذا الوقت. كانت القسطنطينية البيزنطيَّة على وشك الاحتضار بعد أن هجرها سكانها في زمان البيزنطيِّين، فتحوَّلت إلى عاصمةٍ مزدهرةٍ لإمبراطوريَّةٍ واسعةٍ شملت البلقان كلَّه حتى ساحل الأدرياتيكي في الغرب، حتى خط الدانوب - ساڤا في الشمال، مع معظم الأناضول... كان الحرير يأتي من المقاطعات الشماليَّة في إيران إلى مدينة بورصا العثمانيَّة، ومن هذا المكان يتَّجه الحرير بعد ذلك إلى الولايات الإيطاليَّة، سواءٌ كمادة خام، أم كملابس مُصنَّعة في بورصا. -أيضًا- كان الإيطاليُّون يستوردون الموهير من إيران عن طريق بورصا، في مقابل أن يستورد الإيرانيُّون الملابس الصوفية من أوروبا، وكانت التوابل تأتي من الهند والبلاد العربيَّة لتنتقل من الدولة العثمانيَّة غربًا إلى أوروبا، أو تستعمل بواسطة العثمانيِّين أنفسهم»[61]!
وأنشأ الفاتح عددًا كبيرًا من الأسواق الكبرى المجمِّعة في ربوع إمبراطوريته؛ ففي إسطنبول أنشأ الفاتح البدستان (السوق) المعروف بإسكي بدستان (السوق القديم)[62]، وقد أنشأه الفاتح بعد الفتح مباشرة، ليكون مركزًا تجاريًّا كبيرًا وآمنا على طريق الأناضول – الروملي، ولمدينة إسطنبول كذلك، حيث استطاعت هذه السوق استيعاب الفعاليات التجارية الكبيرة آنذاك[63].
وأقام الفاتح -أيضًا- في إسطنبول بدستان جالاتا، والذي كان طوله في عهد الفاتح 1500 متر، وعرضه 1000متر[64]، وصندل بادستان، والذي تعلوه 20 قبة [65]، أما البدستانات خارج مدينة إسطنبول فهناك بدستان يلدم في مدينة بورصا، الذي مساحة دكاكين الحرفيِّين فيه 872 متر مربع، ومساحة الساحات الخارجية 2545 متر مربع، وعدد المخازن 32 مخزنًا، وعدد الدكاكين 68 دكانًا[66]، وبدستان سالونيك باليونان الذي بُني عام (860هـ=1455م)، أو عام (864هـ=1459م)، وبدستان سيريز باليونان أيضًا[67]، كما اهتم الفاتح -أيضًا- ببناء الأسواق المسقوفة التي كانت تحمي الناس أثناء التسوُّق من حرِّ الصيف وبرد الشتاء، ومنها سوق أولاد العجم، وسوق آيا صُوفيا، وسوق النحاسين، وسوق السمك، وسوق قروان سراي، وسوق قروان سراي في بودروم، وسوق الخراطين، وسوق الدباغين، وسوق باب جونجوز، وسوق بير خوجة، وسوق لونجه، وسوق باب الحطب «أوضون»، وسوق صلَّح خانه، وسوق السروج «سرَّاج خانه»، وسوق جامع ساري دمير، وسوق باب الطحين «أون»، وسوق بازار السلطان، وسوق أسكدار، وسوق يمش قاباني، وسوق السراي الجديدة، وكان مجموع دكاكين الأسواق التي تضمَّنتها وقفيَّات عهد السلطان محمد الفاتح في إسطنبول وحدها 2484 دكانًا[68]!
هذه في الواقع نهضةٌ اقتصاديَّةٌ شاملة!
ويُقدِّر عالِم الاقتصاد التركي، والمتخصِّص في تاريخ الاقتصاد في الدولة العثمانيَّة، شوكت باموك Şevket Pamuk مقدار مخزون الفضَّة في عهد الفاتح بقدرٍ يتراوح بين ألفِ طنٍّ من الفضَّة وألفٍ وخمسمائةٍ[69]، وهذا رقمٌ كبيرٌ للغاية في هذا الزمن، علمًا بأنَّ أوروبا كانت تتعرَّض في ذلك الوقت لأزمةٍ عامَّةٍ في مخزون الفضَّة، وهي التي عُرِفت بأزمة «عجز الفضة» «Silver Famine»[70].
والفاتح هو أوَّل سلطانٍ يقوم بصكِّ العملات الذهبيَّة في الدولة العثمانيَّة، وكان هذا في عام 1479م[71]، وكانت الدولة العثمانيَّة قبل ذلك تعتمد على العملات الذهبيَّة المصكوكة في البندقية، أو بعض البلاد الأوروبِّيَّة الأخرى[72]. والفاتح -أيضًا- هو أول من قرَّر عمل ميزانيَّةٍ سنويَّةٍ للدولة العثمانية، يُعرَض فيها موارد الدخل، وكذلك النفقات لكلِّ عام[73].
العلوم في عصر الفاتح:
تقول المؤرِّخة التركيَّة، والأستاذة بجامعة سام هيوستن الأميركيَّة، بينار إميرالي أوغلو Pınar Emiralioğlu: «كان هدف محمد الثاني هو إنشاء إمبراطوريَّةٍ تعتمد على رعاية العلوم والفكر، ولقد صارت القسطنطينية مركزًا عالميًّا نابضًا بالحياة، يجذب الفنَّانين والمفكرين من الشرق والغرب حيث يتبادلون الأفكار، ويسعون إلى الحصول على رعاية السلطان محمد الثاني»[74]. وكان الفاتح مهتمًّا بشتى مجالات العلوم في دولته، ولنأخذ اهتمامه بالجغرافيا كمثال لهذا.
لقد اهتمَّت المصادر التي تبحث عن تاريخ العلوم الجغرافيَّة والخرائط بالجهد الذي بذله الفاتح رحمه الله في رعاية الجغرافيا ورسم الخرائط، ولقد كتبت المؤرِّخة الأميركيَّة كارين بينتو Karren Pinto، -وهي متخصِّصةٌ في تاريخ الجغرافيا والخرائط، خاصَّةً ما هو متعلِّقٌ بالشرق الأوسط- فصلًا كاملًا في كتابها عن الخرائط في العصور الإسلاميَّة عن محمد الفاتح ورعايته للعلوم الجغرافيَّة[75]، وكان اهتمام الفاتح بخرائط بطليموس اهتمامًا كبيرًا، ولقد كان يقضي الشهور في دراسة هذه الخرائط مع صديقه الجغرافي البيزنطي چورچ أميروتزيس George Amirutzes، وقد كلَّفه الفاتح بترجمة خرائط بطليموس إلى اللغة العربيَّة[76]، وهي اللغة المستخدمة في المصادر العلميَّة في ذلك الوقت؛ ولم يكتفِ الفاتح بالترجمة لخرائط بطليموس بل سعى إلى الأفضل، فكلَّف أميروتزيس بعملين آخرين كبيرين؛ أمَّا الأوَّل فهو تحديث الخرائط بحيث يُضاف إليها المعلومات التي استجدَّت عند الجغرافيِّين بعد عهد بطليموس، والثاني كان تركيب خريطة كبيرة للعالم مكوَّنة من خرائط متعدِّدة داخل كتاب بطليموس، بحيث تُعطي للفاتح رؤيةً شاملةً عن كلِّ مكانٍ في العالم في نظرةٍ واحدة[77].
ووسَّع الفاتح من دائرة اهتمامه بالجغرافيا والخرائط فبدأ تقليدًا جديدًا صار متَّبعًا بعد ذلك في الدولة العثمانيَّة، وهو مخاطبة رسَّامي الخرائط المشهورين في العالم، وخاصَّةً في إيطاليا، لإرسال النسخة الأولى من أعمالهم إليه، وهذا يشمل الخرائط المحلِّيَّة التي تصف مدنًا أوروبِّيَّة، أو أيِّ مكانٍ في العالم[78]، وقد أثمرت جهود الفاتح في مراسلة كبار الخرائطيِّين في العالم عن نتائج مبهرة، كان من أهمِّها استجابة عالِم فلورنسا الكبير فرانشيسكو بيرلينجيري Francesco Berlinghieri إلى طلب الفاتح، فصمَّم أطلسًا متميِّزًا يشمل عدَّة خرائط للعالم، كما يشمل خرائط لإيطاليا، وفرنسا، وإسبانيا، وفلسطين، ثم أرسل هذا الأطلس إلى السلطان محمد الفاتح مع كتابة إهداءٍ خاصٍّ له[79]! كان هذا أمرًا عجيبًا لفت أنظار المؤرِّخين؛ لأنَّ أوروبا كانت مليئةً آنذاك -وخاصَّةً إيطاليا- بالأمراء الذين يُقدِّرون الأعمال الفكريَّة والأدبيَّة والفنِّيَّة، ومع ذلك فقد اختار بيرلينجيري أن يُهدي الفاتح أطلسه المتميِّز! تقول المؤرِّخة الإنجليزيَّة كلير نورتون Claire Norton: «اختار بيرلينجيري أن يُهدي أطلسه إلى السلطان محمد الثاني بدلًا من إهدائه إلى أحد أمراء النهضة الإيطاليِّين»[80]! وفي عام 1479م عندما جاء الفنان الإيطالي چنتيل بلليني Gentile Bellini إلى إسطنبول لتزيين قصر توب كابي، ولرسم صورةٍ رسميَّةٍ للسلطان محمد الفاتح، طلب منه الفاتح رحمه الله أن يرسم خريطةً دقيقةً للبندقيَّة Venice، ليكون الفاتح على معرفةٍ تامَّةٍ بهذه الجمهوريَّة ذات العلاقات المهمَّة مع الدولة العثمانيَّة[81].
مُجَمَّع الفاتح العلمي:
أنشأ الفاتح جامعةً علميَّةً كبرى، وهي جزءٌ من مجمع الفاتح الكبير الذي يضمُّ في مركزه مسجده الضخم، وتوجد حول المسجد ثماني كليَّاتٍ متخصِّصةٍ في العلوم الدينيَّة والحياتيَّة، كما يضمُّ كذلك ثماني مدارس للتعليم الأَوَّلي بالإضافة إلى مستشفى كبير، ومكتبة عظيمة، ومطاعم خيريَّة، و-أيضًا- مدينة جامعيَّة لإقامة الطلبة الدارسين والوافدين من أماكن خارج إسطنبول[82]، وكانت هذه الكلِّيَّات تُعْرَف باسم «صحن الثمانية» لاشتمالها على ثماني مدارس متخصِّصة[83]، وهناك عدَّة نقاط مهمَّة أحب أن أشير إليها بخصوص هذه الكليات العظيمة. أوَّل هذه النقاط هي أنَّ هذه هي أوَّل كلِّيَّاتٍ في الدولة العثمانيَّة تجمع في منهجها بين العلوم الشرعيَّة؛ كالتفسير، والحديث، والفقه، وبين العلوم الحياتيَّة؛ كالطب، والرياضيَّات، والفلسفة، والجغرافيا[84]، والنقطة الثانية هي أنَّ هذه الكلِّيَّات كانت تُدرِّس منهجًا ثابتًا يشمل علومًا معيَّنة، وبكيفيَّةٍ محدَّدة، وكان المنهج متميِّزًا، وقد اعتمدته عدَّة جامعات أوروبِّيَّة، في الوقت ذاته، ويقال إنَّ المسئول عن إعداد هذا المنهج كان العالم علي القوشجي، والمولى خسرو[85]، أمَّا النقطة الثالثة فهي أنَّ هذه الكلِّيَّات لم تكن تقبل الطلبة من أيِّ مكان؛ بل لا بُدَّ أن يكون الطالب قد قضى فترةً معيَّنةً في الدراسة والتدريب في بعض المدارس القويَّة المعترف بها لدى هذه الكلِّيَّات، وهذه المدارس الإعداديَّة كانت موجودةً في ثلاث مدنٍ فقط في الدولة العثمانيَّة، هي: إسطنبول، وإدرنة، وبورصا[86]، وبذلك يُضْمَن مستوى المدارس المؤهِّلة لدخول هذه الكلِّيَّات، ويُضْمن مستوى الطلبة بشكلٍ عامٍّ، أمَّا النقطة الرابعة فهي أنَّه لم يكن يُسْمَح لأيِّ عالمٍ أن يقوم بالتدريس في هذه الكلِّيَّات المتميِّزة؛ إنَّما ينبغي أن يُثبت كفاءةً بالغة، بل كانت أحيانًا تُجرى المناظرات العلميَّة في حضرة الفاتح نفسه لكي يُختار أحد العلماء للتدريس في هذه الكلِّيَّات المهمة[87]، ويُبْدي المؤرِّخ التركي أكمل الدين إحسان أوغلو Ekmeleddin İhsanoğlu إعجابه بالسلطان الفاتح الذي دعم الحركة العلميَّة في إمبراطوريَّته بشكلٍ غير مسبوق، ثم يتحدَّث عن الأساتذة الذين يقومون بالتدريس في كلِّيَّات الفاتح الثمانية فيقول: «نتيجة الاستقرار السياسي والرخاء الاقتصادي في عهد الفاتح، اتَّجه علماء العالم الإسلامي المتميِّزون وفنَّانوه إلى الاستقرار في عاصمة الإمبراطوريَّة، ولقد حمى العثمانيُّون العلماءَ المسلمين واليهود الذين هربوا من الاضطهاد من الأندلس وغيرها، وأكثر من هذا فإنَّ الأوقاف الإسلاميَّة ازدادت ثراءً ممَّا أسهم في تطوُّر الحياة العلميَّة والتربويَّة»[88]، أمَّا النقطة الخامسة والأخيرة في هذا الصدد فهي رائعةٌ حقًّا! وهي أنَّ الفاتح رحمه الله جعل المناصب الكبرى في الدولة لا يُتَحصَّل عليها إلَّا إذا أنهى المكلَّف بها دراسةً في هذه الكلِّيَّات، فيضمن بذلك مستوًى علميًّا متميِّزًا في قيادات الدولة، أمَّا المناصب الأكبر، وهي مناصب الوزراء وكبار القضاة، وخاصَّةً في المدن الرئيسة، فإنَّ صاحبها لا بُدَّ أن يكون قد قضى فترةً في «التدريس» في هذه الكلِّيَّات، فلا يُكتفى هنا بخريجي الكلِّيَّات؛ إنَّما لا بُدَّ أن يكون من أعضاء هيئة التدريس فيها[89]! ويُبْدي المؤرِّخ الأميركي كورنيل فليشر Cornell Fleischer انبهاره بهذا النظام العلمي فيقول: «كان خريجو كلِّيَّات الفاتح مؤهَّلين لشغل مناصب أعضاء هيئة التدريس أو القضاة حسب تخصُّصهم، وبالنسبة إلى المدرسين فيكون التدريس على الأغلب في واحدةٍ من مدارس الدولة المؤهِّلة للكلِّيَّات. ومن هذه المدارس يُمكن أن يُؤهَّلوا لمدارس أكثر أهميَّة، أمَّا القضاة فيُمكن أن يُنقلوا إلى قضاء إحدى المقاطعات، معتمدين في ذلك على ترتيبهم الوظيفي، وبعد أن يصيروا في القضاء يكون لهم ترتيبٌ وظيفيٌّ هناك أيضًا»[90]!
المدارس في عصر الفاتح:
زادت المدارس الابتدائية بشكلٍ لافتٍ للنظر في عهد محمد الفاتح، وقُسِّمت إلى مستويات للتفرقة بين المدرسة والأخرى[91]، ويختلف العلماء في نوعيَّة المستويات وأسمائها، وهل وُضِعت هذه التسميات في عهد الفاتح أم في عهد سليمان القانوني، ولكن الأغلب أنَّها وُضِعت في زمن الفاتح، وطُوِّرَت بعد ذلك في عهد سليمان القانوني[92]، وعمومًا فإنَّ المحطَّة الأخيرة في هذا الترتيب هي دخول كلِّيَّات الفاتح الثمانية، وهذا يدعم أنَّ هذا النظام تكوَّن في عهد الفاتح. كان هذا النظام يتكوَّن من مدارس خارجيَّة، وهي المدارس الابتدائية الأولى، ومدارس داخليَّة، وهي المدارس الأعلى، وكانت الخارجيَّة بدورها تنقسم إلى عدَّة فئات؛ فأولها هي مدارس العشرين، التي يتقاضى فيها المدرس عشرين آقجة يوميًّا، ثم مدارس الثلاثين، فالأربعين، ثم أخيرًا الخمسين، وكلها مرتبطة في تسميَّاتها براتب المدرِّس، وهذا يُحدد أمرين: الأوَّل هو درجة المدرسة، فلا يدخل الطالب مدرسةً إلَّا إذا انتهى من التي قبلها، والثاني هي درجة المدرس نفسه؛ لأنَّ هذا يُحدِّد التسلسل الوظيفي للمدرس وانتقاله من مستوًى إلى آخر، ثم تأتي بعد ذلك المدارس الداخليَّة، وهي ثلاثة مستويات: الابتدائية، والإعداديَّة، والتعليم العالي[93]، ويُؤكِّد المؤرِّخ الإنجليزي ريتشارد رِب Richard Repp على أنَّه قبل الفاتح لم تكن هذه التسلسلات في نظام المدارس معروفة، ثم ساق عدَّة أدلَّةٍ تاريخيَّة تُؤكِّد حدوث هذا التسلسل في زمن الفاتح رحمه الله[94]. في نهاية المطاف، فإن مَنْ ينهي مدارس التعليم العالي يُمكن له أن يدخل المدارس الثمانية الأولى التابعة لكلِّيَّات الفاتح، ثم بعدها يُمكن دخول كلِّيَّات الفاتح كمرحلةٍ أخيرةٍ من مراحل التعليم[95].
ومن إضافات الفاتح في مجال المدارس -أيضًا- تطوير «مدرسة القصر» «Palace School»، فمدرسة القصر أُسِّست في زمن مراد الثاني والد محمد الفاتح[96]، ولكن يرجع الفضل للفاتح في توجيه هذه المدرسة لتخريج نوعيَّةٍ خاصَّةٍ جدًّا من الطلبة يُمكن لها أن تتولَّى مناصب الدولة الكبرى مستقبلًا، وكانت هذه المدرسة جزءًا من قصر توب كابي، وتحديدًا في الجناح الثالث منه[97]، وهناك تفصيلاتٌ كثيرةٌ جدًّا عن طريقة التدريس في هذه المدارس، ومنهجها، والاهتمام بها، وطريقة اختيار الطلبة فيها، وطرق تقويمهم، ووضعهم في المناصب التي تُناسبهم، وسأكتفي هنا بذكر ما ذكره القسُّ الإنجليزي كينيث كراج Kenneth Cragg وهو يصف بإعجاب طبيعة هذه المدرسة، ودور الفاتح في تطويرها..
يقول كراج: «واحدةٌ من الفوائد المهمَّة لحكم محمد الثاني كانت التوسعة العريضة لمدرسة القصر، كانت الحكومة المتنامية في الاتِّساع تحتاج بشكلٍ كبيرٍ إلى قياداتٍ إداريَّةٍ متميِّزة، ولمواجهة هذه المشكلة كانت الحكومة تختار الأطفال من سنِّ العاشرة إلى سنِّ الرابعة عشر من كلِّ مكانٍ في الإمبراطوريَّة، وبعد مسحٍ دقيقٍ لهم، يُعطى هؤلاء تربيةً وتعليمًا مدَّته من عشرة أعوام إلى اثني عشر عامًا. كان منهج مدرسة القصر يشمل تعليم اللغات، والفلسفة، والتاريخ، والعلوم، والرياضيَّات، والخدمات العسكريَّة، والقانون، والدين، واللياقة البدنيَّة، والتدريبات اليدويَّة، والسلوك الشخصي. كان خريجو هذه المدرسة مؤهَّلين لشغل المراكز القياديَّة المتعدِّدة في كلِّ أنحاء الإمبراطوريَّة، ولأنَّهم قَدِموا من كلِّ جزءٍ من أجزاء الإمبراطوريَّة كانوا مناسبين بلغاتهم وثقافاتهم للعودة إلى أماكن ولادتهم لخدمة الأمَّة التي أهَّلتهم بعنايةٍ لهذه المهمَّة. كانت نوعيَّة هذه الكوادر القيادية -والكلام للقس الإنجليزي- قادرةً على تعزيز كفاءة الأمَّة لمدَّة مائة سنةٍ قادمة»[98]!
شركاء النجاح في قصة الفاتح: (المنظومة الشعبية المتكاملة)
إنَّ الإبداع الذي جاء به الفاتح رحمه الله صَحِبَهُ إبداعٌ عظيمٌ من طوائف كثيرة ساعدت الفاتح في تحقيق النجاح، ولو لم توجد هذه الطوائف ما تحقَّق معشار ما رأيناه من أمورٍ عظيمةٍ تمَّت في عهد هذا السلطان العظيم!
أول الشركاء في عظمة دولة الفاتح هو جيشه، وقد بدأتُ به لأنَّ رَسُولَ اللهِ ﷺ خصَّه بالمدح عندما مدح فاتح القسطنطينية، فقال: «وَلَنِعْمَ الْجَيْشُ ذَلِكَ الْجَيْشُ»[99]. وجيش الفاتح رحمه الله كان جيشًا عظيمًا قويًّا قاهرًا، وكان كبيرًا للغاية؛ فالذين شاركوا في فتح القسطنطينيَّة تجاوزوا في بعض التقديرات مائةً وخمسين ألف مقاتل، والذين شاركوا في حملة ألبانيا عام 1478م تجاوزوا ثلاثمائة ألف مقاتل، وهذه أرقامٌ ضخمة، خاصَّةً أنَّهم كانوا متميِّزين في المهارة العسكريَّة، وفي الطاعة المطلقة لقادتهم، فحقَّقوا الفتوحات العظيمة، وأنجزوا النصر في معارك عديدة، ولم يكن هذا بلا تضحيَّات؛ فقد كان الشهداء منهم بالآلاف، وأحيانًا بعشرات الآلاف، ولكنَّهم -وإلى آخر لحظات حياة الفاتح رحمه الله- كانوا معه في كلِّ موقف.
ومن شركاء النجاح -أيضًا- الوزراء المتمكِّنون، والقادة المحترفون، والمستشارون الأمناء الحكماء، الذين أسهموا بقوَّةٍ في دفع الدولة العثمانيَّة إلى الأمام، وأحيانًا يكون الرجل بألف رجل، وتكون استشارته أغلى من كنوز الأرض، ولقد اشتُهر الفاتح بإحاطة نفسه بالمستشارين النبهاء، ولهذا فإنَّ الشاعر الألماني هانز روزينبلوت Hans Rosenplut -وهو شاعرٌ معاصرٌ للفاتح- كتب مسرحيَّةً تصف انتصار الفاتح على اليونانيِّين، فقال وهو يصف دخول الفاتح أثينا: «لقد وصل التركي العظيم هنا.. إنَّه هو الذي فتح اليونان.. إنَّه الآن هنا مع مستشاريه الحكماء»[100]!
ومنهم كذلك العلماء الأفذاذ؛ فقد شهد عصر الفاتح عددًا كبيرًا من علماء الشريعة، الذين أسهموا في تعليم الأمَّة وتحفيزها على الجهاد والعمل، وأسهموا كذلك في وضع القوانين، والقضاء بين الناس، وكذلك في وضع المناهج التعليمية، سواءٌ في المدارس أم في كليَّات الفاتح. كما شهد عصر الفاتح عددًا كبيرًا من علماء الحياة؛ في الطب، والجغرافيا، والهندسة، وعلوم الأسلحة والحروب، وغيرها من العلوم.
ومنهم -أيضًا- رجال الاقتصاد، فالفاتح لم يكن يُنفق على الدولة من ماله الخاص؛ إنَّما كان لها مصادر دخلٍ كثيرة، ومن أهمِّها الأموال التي تأتي عن طريق التجارة والزراعة والمشاريع الاقتصاديَّة الكبرى، وكان يقوم على هذه الأعمال اقتصاديُّون متخصِّصون، وهذا وفَّر للدولة أموالًا كثيرةً ساعدتها على القيام بمهامِّها الكبرى، وليس هذا فقط، بل كان هؤلاء الأثرياء يقومون ببناء المشاريع الخيريَّة الضخمة، التي تُساعد في خدمة المجتمع، وبالتالي ترفع من على كتف الدولة مسئوليَّاتٍ كثيرة، وتُوفِّر لها مالًا، وجهدًا، ووقتًا، وهذ كله يصبُّ في نجاح الدولة ورفاهيَّتها.
والمرأة في عهد الفاتح كان لها دورٌ كبيرٌ في بناء الدولة العثمانيَّة، والمرأة هي الأم، والزوجة، والابنة، والأخت، ودولةٌ بهذا الحجم وهذه المهامِّ الجسام، لا يُمكن أن تتقدَّم بغير الأدوار الكبرى التي تُقدِّمها المرأة في هذا المجتمع النشط، غير أنَّ دور المرأة في الدولة العثمانيَّة -وخاصَّةً في زمن الفاتح- لم يكن مقصورًا على دعم الرجال في مهامِّهم الكبرى، ولا على الصبر على الظروف الصعبة التي تُوضَع فيها النساء في وقت الحروب والشدائد؛ ولا على تربية الأولاد تربيةً جيدة، وكلُّ هذه أدوارٌ مهمَّةٌ لا شك؛ إنَّما تعدَّت ذلك بالمشاركة الفعَّالة في الأعمال المجتمعيَّة المهمَّة، وكان لهنَّ دورٌ بارزٌ في الأوقاف الخيريَّة بشكلٍ عامٍّ، والمساجد والمدارس بشكلٍ خاص، ولقد فوجئتُ بوجود عددٍ كبيرٍ من المؤلَّفات التي كُتبت لوصف دور المرأة في الدولة العثمانيَّة بشكلٍ عامٍّ، وكانت هذه الكتب تتناول دورها في عهد الفاتح بشكلٍ خاص؛ لكونه من أنشط عهود الدولة العثمانيَّة، ومن هذه الكتب على سبيل المثال كتاب بتحرير المؤرِّخة الأميركيَّة مادلين زيلفي Madeline Zilfi بعنوان «النساء في الإمبراطوريَّة العثمانيَّة» «Women in the Ottoman Empire[101]، ومنها كتاب بتحرير المؤرِّخة البوسنيَّة، والأستاذة بجامعة يورك York الكنديَّة، أميلا بوتوروڤيتش Amila Buturović، والمؤرخ التركي إيرڤين شيكİrvin Schick بعنوان «النساء في البلقان العثماني» «Women in The Ottoman Balkans»[102]، أمَّا أفضلها فهو كتاب «المرأة العثمانيَّة في المجتمع العام» «Ottoman Women in Public Space» بتحرير المؤرِّختين الإنجليزيَّة كيت فليت Kate Fleet، والتركية إبرو بويار Ebru Boyar، وقد أخذ مؤلفو الكتاب على أولئك الذين همَّشوا دور المرأة العثمانيَّة، وقصروه على دور الزوجة والأم، وذكروا أنَّه كانت لها مشاركات فعَّالة وواضحة في المجتمع العام، وكان لها دورٌ أساسيٌّ في الحياة الاجتماعيَّة للإمبراطوريَّة[103].
لا شَكَّ أنَّ هذه المشاركات النسائيَّة دعمت دولة الفاتح رحمه الله، وأضافت إلى نجاحه.
إنَّنا يمكن أن نقول في نهاية هذه النقطة أن الشعب العثماني بكامله كان له إسهامٌ مباشرٌ في نجاح الفاتح، فهذا الشعب بآبائه وأمَّهاته وأفراده هو الذي أخرج الجنود، والموظَّفين، والتجَّار، والفلَّاحين، وعامَّة من شارك في بناء صرح الدولة العثمانيَّة العملاق، وهذا الشعب هو الذي تحمَّل آلام الحروب، وتهديدات الأعداء الكثر الذين اصطدموا بالدولة العثمانيَّة زمن الفاتح، وتحمَّلوا اختراقات الجيوش الصليبيَّة لمدنهم وقراهم، وعددًا لا يُحصى من الشهداء والمصابين، وهذا الشعب هو الذي صبر على الضوائق الاقتصاديَّة التي مرَّت بالدولة أثناء حروبها المتكرِّرة، وهو الذي دفع الضرائب التي كانت تُجمع لتجهيز الجيوش، وبناء القلاع، وتشييد السفن.
هذه هي المنظومة المتكاملة التي تُفسِّر النجاح العظيم للسلطان القدير محمد الفاتح!
وهذا كلُّه لا يُقَلِّل بالطبع من دور الفاتح في توظيف كلِّ هذه الطاقات بالصورة الصحيحة التي تُحقِّق المجد للدولة العثمانية؛ ليس في عهد الفاتح فقط، إنما في عهودٍ كثيرةٍ لاحقة. يقول المفكِّر الأميركي ديڤيد دامروش David Damrosch، والأستاذ بجامعة هارفارد: «في الواقع كان محمد الفاتح هو الذي رسَّخ الشخصيَّة المتميِّزة للإمبراطوريَّة العثمانيَّة، التي ظلَّت غير مهتزَّةٍ لمدَّة أربعة قرون»[104]، وجاء في الموسوعة البريطانيَّة: «في الواقع لقد وضع محمد الثاني الأساس للحكم العثماني في الأناضول وجنوب شرق أوروبا، الذي سيعيش للقرون الأربعة القادمة»[105]، ويقول المؤرِّخ التركي محمد إبشيرلي: «تبلورت في عهد الفاتح سياسة الدولة العثمانية كثيرًا تجاه الغرب والشرق والجنوب والشمال، واستمرت على ذلك سنوات طويلة»[106]. أمَّا المؤرِّخة الأميركيَّة شيلا بلير Sheila Blair، والمؤرخ الأميركي ﭼوناثان بلوم Jonathan Bloom، فيقولان: «كان العمل الحقيقي لمحمد الثاني أنَّه خلق نظامًا للحكومة استمرَّ مع تغييرٍ يسيرٍ لمدَّة تزيد على القرن، وشكَّل المـُثُل السياسيَّة العثمانيَّة إلى منتصف القرن التاسع عشر»[107].[108].
فهذه هي القيمة الحقيقيَّة للفاتح.. أفضل سلاطين الدولة العثمانية!
[1] Stone, Elizabeth (Sutherland Menzies): History of the Ottoman Empire in Europe, W. Collins, London, UK, 1877., p. 108.
[2] Freely, John: Inside the Seraglio: Private Lives of the Sultans in Istanbul, Viking, New York, USA, 1999., p. 31.
[3] Turnbull, Stephen R.: The Ottoman Empire 1326–1699, Bloomsbury Publishing, London, UK, 2012 (A).p. 45.
[4] Babinger, Franz: Mehmed the Conqueror and His Time, Princeton University Press, 1978., p. 377.
[5] Kleiman, Irit Ruth: Philippe de Commynes, University of Toronto Press, Toronto, Canada, 2013, p. 50.
[6] D’Elia, Anthony F.: A Sudden Terror: the plot to murder the Pope in Renaissance Rome, Harvard University Press, London, UK, 2009.p. 12.
[7] Del Testa, David W.; Lemoine, Florence & Strickland, John: Government Leaders, Military Rulers and Political Activists, Oryx Press, Westport, Westport, Connecticut, USA, 2001., p. 123.
[8] ابن إياس، محمد بن أحمد: بدائع الزهور في وقائع الدهور، حققها وكتب لها المقدمة والفهارس: محمد مصطفى، الهيئة المصرية العامة للكتاب-فرانز شتاينر، القاهرة-فيسبادن، الطبعة الثالثة، 1404هـ=1984م. صفحة 3/181.
[9] Howe, Stephen: Empire: A Very Short Introduction, Oxford University Press, New York, USA, 2002., p. 15.
[10] أوزتونا، يلماز: تاريخ الدولة العثمانية، ترجمة: عدنان محمود سلمان، مراجعة وتنقيح: محمود الأنصاري، مؤسسة فيصل للتمويل، إستانبول، 1988 صفحة 1/178.
[11] Uyar, Mesut & Erickson, Edward J.: A Military History of the Ottomans: From Osman to Atatürk, ABC CLIO, Santa Barbra, USA, 2009., p. 32.
[12] Uyar & Erickson, 2009, p. 67.
[13] Ágoston, Gábor: Guns for the Sultan, Cambridge University Press, New York, USA, 2005., p. 43.
[14] أوزتونا، 1988 صفحة 1/180.
[15] إحسان أوغلي، أكمل الدين: الحياة التعليمية والعلمية وأدبيات العلوم عند العثمانيين، ضمن كتاب: إحسان أوغلي، أكمل الدين: الدولة العثمانية تاريخ وحضارة، ترجمة: صالح سعداوي، مركز الأبحاث للتاريخ والفنون والثقافة الإسلامية، إستانبول، 1999م. صفحة 2/614.
[16] بروكلمان، كارل: تاريخ الشعوب الإسلامية، ترجمة: نبيه أمين فارس، منير البعلبكي، دار العلم للملايين، بيروت، الطبعة الخامسة، 1968م. صفحة 442.
[17] مانسيل، فيليب: القسطنطينية المدينة التي اشتهاها العالم 1453 – 1924، ترجمة: مصطفى محمد قاسم، المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، الكويت، 1436هـ=2015م.الصفحات 1/36، 37.
[18] إحسان أوغلي، 1999 صفحة 2/614.
[19] سرهنك، إسماعيل: حقائق الأخبار عن دول البحار، المطابع الأميرية، بولاق، مصر، الطبعة الأولى، 1312هـ=1895م، 1895 صفحة 1/519.
[20] Sizgorich, Tom: Mehmet II (1432-1481), In: Thackeray, Frank W. & Findling, John E.: Events That Formed the Modern World: From The European Renaissance to the War on Terror, ABC-CLIO, Santa Barbara, California, USA, 2012., vol. 1, p. 215.
[21] شوجر، بيتر: أوروبا العثمانية 1354 – 1804، ترجمة: عاصم الدسوقي، دار الثقافة الجديدة، القاهرة، الطبعة الأولى، 1998م. صفحة 61.
[22] Davison, Roderic H.: Essays in Ottoman and Turkish History, 1774-1923: The Impact of the West, University of Texas Press, Austin, Texas, USA, 1990., p. 12.
[23] Velikonja, Mitja: Religious Separation and Political Intolerance in Bosnia-Herzegovina, Texas A&M University Press, USA, 2003., p. 79.
[24] Stanton, Andrea L.: Cultural Sociology of the Middle East, Asia, and Africa: An Encyclopedia, SAGE, Los Angeles, USA, 2012, vol. 1, p. 182.
[25] Avigdor, Levy: Jews, Turks, Ottomans: A Shared History, Fifteenth Through the Twentieth Century, Syracuse University Press, New York, USA, 2002., p. 5.
[26] Berktay, Halil; Koulouri, Christina & Murgescu, Bogdan C.: Ottoman Empire, Center for Democracy and Reconciliation in Southeast Europe, Thessaloniki, Greece, 2005., p. 78.
[27] Shaw, Stanford Jay: The Jews of the Ottoman Empire and the Turkish Republic, Macmillan press, London, UK, 1991., pp. 31-32.
[28] Babinger, 1978, p. 15.
[29] أوزتونا، 1988 صفحة 1/139.
[30] مانسيل، 2015 صفحة 1/24.
[31] Hosaflook, David: Marin Barleti: The Siege of Shkodra: Albania's Courageous Stand Against Ottoman Conquest, 1478, Onufri Publishing House, Albania, 2012., p. 227.
[32] Atçıl, Abdurrahman: Scholars and Sultans in the Early Modern Ottoman Empire, Cambridge University Press, Cambridge, UK, 2017., p. 59.
[33] Özervarlı, M. Sait: Islam and Rationality, Brill, Boston, USA, 2015., vol. 1, p. 381.
[34] Kuban, Doğan: Muslim Religious Architecture, Brill, Boston, USA, 1985, vol. 2, p. 21.
[35] Finkel, Caroline: Osman's Dream: The Story of the Ottoman Empire 1300-1923, John Murray, London, UK, Basic Books, New York, 2005., p. 101.
[36] الملطيّ، زين الدين عبد الباسط بن أبي الصفاء غرس الدين خليل بن شاهين الظاهري: نيل الأمل في ذيل الدول، تحقيق: عمر عبد السلام تدمري، المكتبة العصرية للطباعة والنشر، بيروت، الطبعة الأولى، 2002م. صفحة 7/288.
[37] النهروالي، قطب الدين: الإعلام بأعلام بيت الله الحرام، إشراف: سيد عبد الفتاح، تقديم وتحقيق: هشام عبد العزيز عطا، المكتبة التجارية مصطفى أحمد البار، مكة المكرمة، 1996م. صفحة 270.
[38] الشوكاني، محمد بن علي بن محمد: البدر الطالع بمحاسن من بعد القرن السابع، حققه وعلق عليه وضبط نصه وصنع فهارسه: محمد حسن حلاق، دار ابن كثير للطباعة والنشر والتوزيع، بيروت، الطبعة الأولى، 1427هـ=2006م.صفحة 823.
[39] السيوطي، عبد الرحمن بن أبي بكر جلال الدين: نظم العقيان في أعيان الأعيان، تحقيق: فيليب حتي، المكتبة العلمية، بيروت، 1927م. صفحة 173.
[40] Nurja, Ermal: The Rise and the Destrucion of Ottoman Architecture in Albania: A Brief History Focused on the Mosques, In: Furat, Ayşe Zişan & Er, Hamit: Balkans and Islam: Encounter, Transformation, Discontinuity, Continuity, Cambridge Scholars Publishing, Newcastle, UK, 2012., p. 198.
[41] Üçok, CoṢkun: Türk Hukuk Tarihi Dersleri, AÜHF Yay, Ankara,1972., vol. 5, p. 146.
[42] Peters, F. E.: The Monotheists: Jews, Christians, and Muslims in Conflict and Competition, Princeton University Press, Princeton, New Jersey, USA, 2005, p. 122.
[43] Setton, Kenneth Meyer: The Papacy and the Levant (1204–1571), The American Philosophical Society, Philadelphia, USA, (Volume 2, The Fifteenth Century, 1978), vol. 2, p. 108.
[44] Gregory, Timothy E.: A History of Byntizaum, west Sussex, Wiley- Blackwell, UK - Wiley-Blackwell, Malder, M A, USA, 2010., p. 391.
[45] كينروس، چون باتريك: القرون العثمانية قيام وسقوط الإمبراطورية التركية، ترجمة وتعليق: ناهد إبراهيم دسوقي، منشأة المعارف، الإسكندرية-مصر، 2002م.صفحة 122.
[46] باتريك، ماري ملز: سلاطين بني عثمان، مؤسسة عز الدين للطباعة والنشر، بيروت، الطبعة الأولى، 1407هـ=1986م.صفحة 31.
[47] جانبولات، أورهان صادق: شيخ الإسلام ابن كمال باشا، ضمن كتاب: جالودي، عليان: التحولات الفكرية في العالم الإسلامي: أعلام، وكتب، وحركات، وأفكار من القرن العاشر إلى الثاني عشر الهجري، المعهد العالي للفكر الإسلامي، عمان–الأردن، الطبعة الأولى، 1435هـ=2014م.صفحة 54.
[48] أوزتونا، 1988 صفحة 1/180.
[49] Band, Zweyter: Von der Eroberung Constantinopels bis zum Tode Selim’s I, (1453-1520), In: Griffiths, Ralph & Griffiths, George Edward: The Monthly Review From January to April inclusive 1828, Vol. 7, Hurst, Chance & Co., London, UK, 1828., vol. 7, p. 516.
[50] جانبولات، 2009 صفحة 85.
[51] Koç, Yunus: Early Ottoman Customary Law: The Genesis and Development of Ottoman Codification, In: Dostal, Walter & Kraus, Wolfgang: Shattering Tradition: Custom, Law and the Individual in the Muslim Mediterranean, I.B.Tauris, New York, USA, 2005., p. 84.
[52] أوزتونا، 1990 صفحة 2/665.
[53] Faroqhi, Suraiya: The Ottoman Empire: A short history, Translated: Shelley Laura Frisch, Markus Wiener Publishers, Princeton, New Jersey, USA, 2008., p. 43.
[54] أوزتونا، 1990 صفحة 2/683.
[55] أوزتونا، 1990 صفحة 2/717.
[56] أوزتونا، 1990 صفحة 2/750.
[57] Maclagan, Michael: The City of Constantinople, Praeger Publishing, Santa Barbara, CA, USA, 1968., p. 189.
[58] Babinger, 1978, p. 464.
[59] الحداد، محمد حمزة إسماعيل: العمارة الإسلامية في أوروبا العثمانية، مجلس النشر العلمي-جامعة الكويت، الكويت، الطبعة الأولى، 1423هـ=2002م. 1/259.
[60] Donia, Robert J.: Sarajevo: A Biograph, University of Michigan Press, Michigan, USA, 2006., p. 17.
[61] Finkel, 2005, pp. 128-129.
[62] Cezar, Mustafa: Typical Commercial Buildings of the ottoman Classical Period and the ottoman construction system, Türkiye İş Bankası Cultural Publication, Istanbul, 1983., pp. 174-185.
[63] إينتبه، ناظم: مراكز النشاط الاقتصادي في الدولة العثمانية، ترجمة: أورخان محمد علي، مجلة حراء، العدد: 9، 2017م. صفحة 34.
[64] الدغيم، محمود السيد: المعمار العثماني في عهد محمد الفاتح: أبنية مدارس وأسواق، صحيفة الحياة، العدد: 16241، 1428هـ=2007م، 2007 صفحة 21.
[65] الحداد، 2002 صفحة 1/263.
[66] الدغيم، 2007 صفحة 21.
[67] Cezar, 1983, pp. 192-194.
[68] الدغيم، 2007 صفحة 21.
[69] Pamuk, Şevket: A Monetary History of the Ottoman Empire, Cambridge University Press, Cambridge, UK, 2000., p. 241.
[70] Wickham, Chris: Medieval Europe, Yale University Press, London, UK, 2016., p. 136.
[71] Cook, M. A: Studies in the Economic History of the Middle East: from the Rise of Islam to the Present Day, Routledge, London, UK, 2015., p. 240.
[72] Howard, Douglas Arthur: A History of the Ottoman Empire, Cambridge University Press, Cambridge, UK, 2017., p. 75.
[73] كوتوك أوغلي، مباهات: البنية الاقتصادية في الدولة العثمانية، ضمن كتاب: إحسان أوغلي، أكمل الدين: الدولة العثمانية تاريخ وحضارة، ترجمة: صالح سعداوي، مركز الأبحاث للتاريخ والفنون والثقافة الإسلامية، إستانبول، 1999م، صفحة 1/627.
[74] Emiralioğlu, Pınar: Geographical Knowledge and Imperial Culture in the Early Modern Ottoman Empire, Ashgate publishing, Limited, Surrey, UK, 2014., p. 71.
[75] Pinto, Karen C.: Medieval Islamic Maps: An Exploration, University of Chicago Press, Chicago, USA, 2016., pp. 219-232.
[76] Shefer-Mossensohn, Miri: Hospitals and Medical Institutions, In: Kalin, Ibrahim: The Oxford Encyclopedia of Philosophy, Science, and Technology in Islam, Oxford University Press, New York, USA, 2014., p. 137.
[77] Norton, Claire: Blurring the Boundaries: Intellectual and Cultural Interactions between the Eastern and Western: Christian and Muslim worlds, In: Contadini, Anna & Norton, Claire: The Renaissance and the Ottoman World, Ashgate publishing, Limited, Surrey, UK, 2013., p. 15.
[78] Shefer-Mossensohn, 2015, p. 136.
[79] Emiralioğlu, 2014, p. 72.
[80] Norton, 2013, p. 16.
[81] Emiralioğlu, 2014, p. 72.
[82] İhsanoğlu, Ekmeleddin: Education, In: Ágoston, Gábor & Masters, Bruce Alan: Encyclopedia of the Ottoman Empire, Infobase Publishing, New York, USA, 2009., p. 199.
[83] İnalcık, 2013, p. 139.
[84] İhsanoğlu, 2009, pp. 199-200.
[85] Kılıç, Abdullah: Magnificent Structures of philanthropy: the şifahanes of İstanbul, İstanbul Büyükşehir Belediyesi Kültür, İstanbul, Turkey, 2009, p. 42.
[86] Fleischer, Cornell H.: Bureaucrat and Intellectual in the Ottoman Empire: The Historian Mustafa Ali (1541-1600), Princeton University Press, Princeton, N J, USA, 1986., p. 26.
[87] Atçıl, Abdurrahman: Scholars and Sultans in the Early Modern Ottoman Empire, Cambridge University Press, Cambridge, UK, 2017., p. 68.
[88] İhsanoğlu, 2008, vol. 1, p. 1965.
[89] Atçıl, 2017, p. 69.
[90] Fleischer, 1986, p. 26.
[91] İhsanoğlu, 2008, vol. 1, p. 1965.
[92] إحسان أوغلي، 1999 الصفحات 2/457-460.
[93] İnalcık, 2013, p. 96.
[94] Repp, Richard: Some Observations on the Development of the Ottoman Learned Hierarchy, In: Keddie, Nikki R: Scholars, Saints, and Sufis Muslim Religious Institutions in the Middle East Since 1500, University of California Press, Los Angeles, USA, 1972., pp. 17-20.
[95] Fleischer, 1986, p. 26.
[96] Kaçar, Mustafa: Palace School (Enderun-i Hümayun Mektebi), In: Ágoston, Gábor & Masters, Bruce Alan: Encyclopedia of the Ottoman Empire, Infobase Publishing, New York, USA, 2009., p. 452.
[97] Kia, Mehrdad: The Ottoman Empire: A Historical Encyclopedia, ABC-CLIO, Santa Barbara, California, USA, 2017., vol. 1, p. 150.
[98] Cragg, Kenneth B.: Christians and Muslims: From History to Healing, iUniverse, Boomington, IN, USA, 2011.2011, p. 121.
[99] رواه أحمد وصححه الحاكم ووافقه الذهبي، سبق تخريجه انظر: ص PAGEREF نعم_الأمير \h Error! Bookmark not defined..
[100] Walsh, Martin W.: Conquering Turk in Carnival Nürnberg: Hans Rosenplüt's Des Turken Vasnachtspil of 1456, In: Gusick, Barbara I. & Heintzelman, Matthew Z.: Fifteenth-Century Studies, Camden House, NewYork, USA, 2011., vol. 36, p. 181.
[101] Zilfi, Madeline C. (Editor): Women in the Ottoman Empire, Brill, Leiden, Netherlands, 1997.
[102] Buturović, Amila & Schick, İrvin Cemil (Editors): Women in the Ottoman Balkans, I.B. Tauris, New York, USA, 2007.
[103] Boyar, Ebru & Fleet, Kate (Editors): Ottoman Women in Public Space, Brill, Leiden, Netherlands, 2016, p. 1.
[104] Damrosch, David: The Longman Anthology of World Literature, Longman, London, UK,, 2004, vol. 4, p. 166.
[105] Encyclopaedia Britannica: The New Encyclopaedia Britannica: Micropaedia, Encyclopaedia Britannica, inc, London, UK, 1993., p. 948.
[106] إبشيرلي، محمد: نظم الدولة العثمانية، ضمن كتاب: إحسان أوغلي، أكمل الدين: الدولة العثمانية تاريخ وحضارة، ترجمة: صالح سعداوي، مركز الأبحاث للتاريخ والفنون والثقافة الإسلامية، إستانبول، 1999م.صفحة 1/222.
[107] Blair, Sheila S. & Bloom, Jonathan M.: The Grove Encyclopedia of Islamic Art & Architecture, Oxford University Press, New York, USA, 2009.. 2, p. 166.
[108] دكتور راغب السرجاني: قصة الدولة العثمانية من النشأة إلى السقوط، مكتبة الصفا للنشر والتوزيع، القاهرة، مصر، الطبعة الأولى، 1442ه= 2021م، 1/ 321- 345.
لشراء كتاب قصة الدولة العثمانية من النشأة إلى السقوط يرجى الاتصال على الرقم التالي: 01116500111
التعليقات
إرسال تعليقك