التاريخ الإسلامي
دون تشويه أو تزوير
التاريخ الإسلامي يمتد منذ بداية الدعوة الإسلامية بعد نزول الوحي على رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم تأسيس الدولة الإسلامية بالمدينة المنورة وحكم الخلفاء الراشدين، مرورًا بالدولة الأموية فالدولة العباسية بما تضمنته من إمارات ودول مثل السلاجقة والغزنوية في وسط آسيا والعراق وفي المغرب الأدارسة والمرابطين ثم الموحدين وأخيرًا في مصر الفاطميين والأيوبيين والمماليك ثم سيطرة الدولة العثمانية التي تعتبر آخر خلافة إسلامية على امتداد رقعة جغرافية واسعة، وهذه البوابة تعنى بتوثيق التاريخ من مصادره الصحيحة، بمنهجية علمية، وعرضه في صورة معاصرة دون تشويه أو تزوير، وتحليل أحداثه وربطها بالواقع، واستخراج السنن التي تسهم في بناء المستقبل.
ملخص المقال
دخل الإسلام دارفور منذ عصور، وربَّما يرجع للقرنين الثاني عشر والثالث عشر الميلاديَّين؛ أي منذ سلطنة الداجو وسلطنة التنجر..
دخل الإسلام دارفور منذ عصور، وربَّما يرجع للقرنين الثاني عشر والثالث عشر الميلاديَّين؛ أي منذ سلطنة الداجو وسلطنة التنجر، ثم ازدهر في عهد سلطنة «الفور الكيرا» والسلطان «شاو دورشيد» آخر سلاطين التنجر، وقد كان هذا السلطان -كما ذكر الثِّقات- مسلمًا، وقد زوَّج ابنته خيرة لــ«أحمد سفيان» المشهور بأحمد المعقور، ولم يأخذ السلطان «شاو دورشيد» الإسلام من يد أحمد المعقور كما جاء في كتب بعض المؤرِّخين، وقد وفد الإسلام لهذه السلطنات الثلاث من شمال إفريقيا وشمال غرب إفريقيا، وأخيرًا نزح إليها العلماء من سودان وادي النيل.
ومن أبلغ الدلائل على وجود الإسلام بدارفور منذ القدم، وجود أوقاف التنجر بالمدينة المنورة منذ عهد السلطان «أحمد رفاعة التنجراوي» دلالةً على أسلمة سلطنة التنجر، كما عُثِر على آثار لأنقاض جوامع بمدينة أورى حاضرة سلطنة التنجر بشمال دارفور؛ أي بالقرب من مدينة عين فرح الأثريَّة، التي تُعتبر إقليمًا جغرافيًّا متميِّزًا، يُعدُّ سجلًّا لتاريخ الحضارة الإسلاميَّة في دارفور.
حركة انتشار الإسلام:
وقد تعدَّدت العوامل في انتشار الإسلام في دارفور قبل قيام سلطنة دارفور الإسلاميَّة قبيل منتصف القرن الخامس عشر الميلادي بزمنٍ طويل، هذه العوامل كانت تُؤتي ثمارها منذ أن انتشر الإسلام في بلدان غرب إفريقيا ووسط إفريقيا، المعروفة جغرافيًّا باسم بلاد السودان الغربي والأوسط منذ القرن الحادي عشر؛ حيث كان يمرُّ حجَّاج هذه البلاد في طريقهم إلى بيت الله المقدَّس بإقليم دارفور، بالإضافة إلى الاتِّساع في حركة التجَّار العرب وغير العرب من المسلمين في هذا الإقليم، التي لاقت ترحيبًا من سكَّان الإقليم؛ وهو ما ساعد على انتشار مسيرة الإسلام وتوطيد العربيَّة لغة القرآن الكريم، والتَّخاطب في شتَّى المجالات الثقافيَّة والاجتماعيَّة والسياسيَّة والاقتصاديَّة.
وعندما أسَّس السلطان «سليمان سلونق» «سلطنة الفور الإسلامية» عام (848هـ=1445م)، اهتمَّ ببناء المساجد وفتح المدارس وتعمير الخلاوى بالمدن والقرى، كما واصل حفيده السلطان «أحمد بكر» (1726-1746م) نهج أسلافه في هذا المضمار؛ فقد شجَّع هجرة العلماء للعمل بدارفور لنشر دين الإسلام بطريقةٍ علميَّةٍ مؤسَّسة، فأرسل رسله للدول المجاورة، فوفد نفرٌ كريمٌ من العلماء الأجلَّاء من تمبكتو غرب إفريقيا، ومن دار شنقيط، ومن سلطنة البرنو، وسلطنة باقرمي والمغرب العربي، ومصر وتونس وفزَّان والحجاز وسودان وادي النيل بناءً على دعوته.
دخل هؤلاء العلماء سلطنة دارفور في فترات متعاقبة، واستقرُّوا بها لأداء مهمَّتهم الجليلة، فوجدوا من السلاطين الرعاية والاحترام والتقدير والتكريم، فمنحوهم الأراضي والمال الوفير والخدم لراحتهم واستقرارهم، اعترافًا برسالتهم المقدَّمة، واستقرُّوا بوطنهم الجديد دارفور، ونشطت مدارسهم، وازدهر العلم في ربوع البلاد، وقوي الإسلام، وتبحَّر الناس في علوم الدين.
هجرة العلماء لدارفور:
كما هاجرت إلى دارفور قبائل أخرى ليست عربيَّة الأصل، وكان لها أثرها في نشر الإسلام، نذكر منها قبيلة الفولاني التي جاءت من غرب جالون في القرن الثامن عشر، فكان منهم العالم مالك علي الفوتاوي، حفيد العالم عثمان دان فوديو، والعالم ألتمرو من شمال غرب إفريقيا، وأبو سلامة، والفقيه سراج.
أمَّا العلماء الذين وفدوا من سلطنة برنو فنذكر منهم: العالم الشيخ «طاهر أبو جاموسي»، الذي تزوَّج شقيقة السلطان «تيراب»، أيضًا وفد من سلطنة باقرمي علماء مقدَّرون، أمَّا الميما فكان لهم دورٌ عظيمٌ في نشر الإسلام خاصَّةً أيَّام سلطنة التنجر بشمال دارفور.
لقد كان لهؤلاء العلماء دورٌ كبيرٌ في نشر الثقافة الإسلاميَّة، كما كان لهم الفضل في تعليم مذهب الإمام مالك، والكتابة بخطِّ الورش قبل العمل بالخطِّ العمري، واستفاد أهل دارفور من مدارس أخرى كمصر وتونس والحجاز وسودان وادي النيل، إلَّا أنَّهم في ذلك العهد تأثَّروا كثيرًا من ثقافة غرب إفريقيا الإسلاميَّة، وأيضًا المغرب العربي.
تعليم القرآن وعلوم الدين:
يَعتبر أهل دارفور تعلُّم القرآن والقراءة والكتابة واجبًا دينيًّا على كلِّ شخص -رجلًا كان أو امرأة- خاصَّةً في طور الطفولة، لذا كان يُهاجر بعض التلاميذ إلى خلاوى بعيدة؛ وهو ما جعل حركة المهاجرين سمةً من السمات الاجتماعيَّة البارزة في دارفور، وهناك اعترافات أنَّ قبيلة الفور جعلت خلاوى المهاجرين مؤسَّسات قائمة بذاتها، لها نُظُم وقواعد ومفاهيم وقيم مرتبطة بها..
ومن الطريف أنَّك قد تجد في بعض هذه الخلاوى تلاميذ كبار السن لم يحفظوا القرآن في سنٍّ مبكِّرة أيَّام طفولتهم، ثم اقتنعوا أنَّ طالب العلم ليس له حدٌّ في العمر، والعلم واجبٌ تحصيله؛ لأنَّ طالب القرآن في ذلك الزمان كان مقدَّرًا ومحترمًا من قِبَل سكان البلد، وبعد حفظ الطالب القرآن وتخرُّجه تُذبح له الذبائح، ويُعرض له الزواج بواحدةٍ أو اثنتين أو أكثر؛ لأنَّه أصبح شخصًا مهمًّا في المجتمع، ومن ميزات حفظ القرآن أنَّ صاحبه لا يُطلب منه دفع المهر لزواجه إثر تخرُّجه إكرامًا له.
حبال الفور .. وحفظ القرآن:
ولفقهاء الفور طريقة معيَّنة لحفظ القرآن عُرفت بحبال الفور، وهي علمٌ خاص، وفنٌّ راقٍ له طريقة تعليم معيَّنة، لا تجد مثله عند القبائل الأخرى الموجودة بدارفور؛ فلا يرضى العالم عند الفور بتحفيظ القرآن إلَّا إذا كان متبحِّرًا في علم الحبال، والحبل هو أوَّلًا عبارة عن وسيلة في عمليَّة حفظ الآيات المتكرِّرة، ثم يستعين بالحبال في حفظ الآيات المتشابهة، وهو أن يذكر جميع السور التي وردت فيها كلمة معيَّنة وهذا -أيضًا- بمساعدة الحبال، مثل الحبل "فبلاو" الذي يُشير إلى الآيات التي فيها كلمة مصر، والحروف المذكورة هي التي تلي كلمة مصر، لذا لابُدَّ لدارس القرآن في تلك المرحلة أن يعرف أعداد الحروف الواردة في الكتاب..
ولا يُعتبر الحافظ عارفًا بالقرآن إلَّا إذا كان عارفًا بفنِّ الحبال والحرف، فمعرفة الحبال تُعتبر قمَّة المعرفة عند أفراد قبيلة الفور، وعندهم علم التجويد وهو من العلوم التي يدرسها التلميذ المتخصِّص، ويوجد نوعان من الامتحانات للشهادات العليا في تعلُّم القرآن..
النُّوع الأوَّل:
هو امتحان القوني، فيجتمع عددٌ من العلماء الفقهاء، ثم يحضر الممتحن، وعليه أن يكتب ويقرأ من حفظه دون أن ينظر إلى المصحف، ثم عليه بالتجويد، وقد يُطلب منه أن يقرأ من ثلاث عودات أو أكثر كتابة وقراءة قبل أن تُجاز له هذه الشهادة، وهي لقب "قوني".
النوع الثاني:
فهو صعبٌ غاية الصعوبة؛ لأنَّ هذا الامتحان تحت إشراف وتنفيذ كبار المشايخ؛ أي الفقهاء الذين اشتهروا بين الحفظة وبين أهل فنِّ الحبال منذ سنين، في هذه المرحلة المتقدِّمة لا يُسأل الممتحن عن حفظه بالقرآن، بل هذا الامتحان يرتكز على الحبال، فإذا نجح الطالب في الامتحان فقد امتاز، ويُسمح له بفتح خلوة جديدة، كما تُقام له احتفالات ومهرجانات قد تستمرُّ أسبوعًا كاملًا، يحضرها الحفظة والمشايخ والقواني، هذه هي العادات والنظم التي يتميَّز بها التعليم عند مجتمع الفور.
مراكز العلم بدارفور:
نذكر من أشهر مراكز العلم بدارفور كريو لمؤسَّسه مالك الفوتاوي وأسرته، ومركز كوبي للعالم عبد الرحمن كاكوم، ومركز جديد السيل الذي درس فيه فقهاء الجوامعة، ومركز هبيلة للفقيه عبد النبي ساجا، ومركز شوبا شمال جبل مرة، ومركز الدامرة شمال كتم لمؤسسه الشيخ عبد الباقي المسيري الفليتي، ومركز كونو شمال زالنجي.
فكان بكلِّ قرية مسجد يُتعلَّم فيه القرآن، وكان لكلِّ عالم مسجدٌ بالقرب من منزله يُصلِّي فيه الصلوات الخمس، وبجواره خلاوى المهاجرين، كان بعض المهاجرين يذهب إلى الأزهر بالتعريف بالقاهرة، حيث بدأت هجرتهم منذ 1850م، وخُصِّص لهم في ذلك الوقت رواقٌ بالأزهر، اسمه رواق دارفور مازال محتفظًا بهذا الاسم إلى يومنا هذا، كما هاجر أهل دارفور إلى تونس وغرب إفريقيا طلبا للعلم.
أكابر العلماء في عهد سلاطين الفور:
هنالك عددٌ من العلماء اشتهروا بسلطنة دارفور الإسلاميَّة، نذكر منهم العالم عبد الرحمن كاكوم الذي أتى دارفور من سودان وادي النيل، وهو من أبرز العلماء الذين نشروا العلوم الإسلاميَّة في دارفور، زامن عصره عهد السلطان محمد تيران الذي تولَّى حكم سلطنة دارفور (من 1768م إلى 1787م)..
وبعد فترة غادر الفقيه عبد الرحمن كاكوم سلطنة دارفور إلى الأزهر، ودرس كلَّ ما يخصُّ علوم الدين، ومكث هنالك قرابة ثلاثين سنة، وكان يصوم السنة فأُطلِق عليه الضويمر؛ أي صايم ديمه، ثم عاد إلى دارفور عالمـًا في زمن السلطان عبد الرحمن الرشيد الذي حكم دارفور في الفترة من 1787م إلى 1806م فاستقبله بحفاوة بالغة، واستقرَّ بمدينة كوبي، وشيَّد مسجده الذي صار معهدًا، وجذب الكثير من طالبي العلم حتى من سلطنة ودَّاي المجاورة لدارفور..
وذكر الثِّقات أنَّ الإمام كاكوم هو الذي أشار للسلطان عبد الرحمن الرشيد بصلاحيَّة الفاشر كعاصمة لدارفور، وقد ظلَّ أحفاد العالم كاكوم يزاولون مهنة العلم والتدريس والإماميَّة إلى عهد السلطان علي دينار الذي استُشهد في نوفمبر 1916م.
ومن مشاهير العلماء في دارفور آنذاك الفقيه حسين ود عماري الذي وُلِد بطويلة، وهو من قبيلة العريفات، فقد سافر حسين ود عماري إلى الأزهر بصحبة قافلة تجاريَّة، ومكث هناك أكثر من خمس وعشرين سنة، درس علوم الدين الإسلامي وتفقَّه فيها، وبعدها عاد إلى السودان، وزار في طريقه دنقلا وشندي وأم درمان وكوستي والأبيض، وكان يقوم بحلقات دراسيَّة في هذه المدن، ثم وصل الفاشر في عهد السلطان محمد الفضل، وقد أكرمه السلطان وقرَّبه إليه، وجعله معلِّمًا ومربِّيًا لأولاده، ثم رئيسًا لديوان السلطان.
ومن أكابر العلماء -أيضًا- مولانا فخر الدين بن الفقيه محمد سالم شيخ الشغا، والفقيه سالم شيخ العزيمة، والإمام الضو بن الإمام المصري، إمام السلطان، والعالم عز الدين من الجوامعة حضر من كردفان، ومولانا القاضي أحمد طه بكوبي، العالم سعد من أهل الخبير، والفقيه أبو سلامة بن الفقيه مالك شيخ الموطأ، والفقيه الشيخ الدرديري من كردفان.
علاقة العلماء بالسلاطين:
كانت علاقة السلاطين بالعلماء وطيدة وحميمة؛ فالحكام كانوا يهتمُّون بنشر الدين الإسلامي وازدهاره أشدَّ الاهتمام، وكان للعلماء دورٌ كبيرٌ في توثيق الصلات بين دارفور وبلاد مصر وتونس والمغرب والحجاز، فكان دور السلاطين احتضان العلماء والفقهاء في إثراء كلِّ ما يخصُّ الإسلام وتعاليمه..
فكان هناك تعاونٌ وثيقٌ بين الطرفين، حيث ضَمِنَ السلاطين للعلماء حياةً رغدةً آمنةً مستقرَّة، كما دعم العلماء السلاطين بدعواتهم وإرشاداتهم ونصائحهم، فاستقام كلُّ شيءٍ في البلاد، وتأكد أنَّه ليس هناك اعتماد على غير الإسلام؛ لأنَّ السلطنة كانت محاطة بدول إسلاميَّة، وكان للعلماء دورٌ عظيمٌ في توحيد القبائل وتجميعها بدارفور، وهذا يرجع لفضل التعليم على المجتمع، وعلى سياسة الدولة آنذاك.
التعليقات
إرسال تعليقك