الحضارة
سبق وريادة وتجديد
اهتمت الدولة الإسلامية في عهد الخلافة الراشدة والأموية والعباسية بالعلوم والمدنية كما اهتمت بالنواحي الدينية فكانت الحضارة الإسلامية حضارة تمزج بين العقل والروح، فامتازت عن كثير من الحضارات السابقة. فالإسلام دينٌ عالمي يحض على طلب العلم وعمارة الأرض لتنهض أممه وشعوبه، وتنوعت مجالات الفنون والعلوم والعمارة طالما لا تخرج عن نطاق القواعد الإسلامية؛ لأن الحرية الفكرية كانت مقبولة تحت ظلال الإسلام، وامتدت هذه الحضارة القائمة بعدما أصبح لها مصارفها وروافدها لتشع على بلاد الغرب وطرقت أبوابه، وهذه البوابة تبرز إسهامات المسلمين في مجالات الحياة الإنسانية والاجتماعية والبيئية، خلال تاريخهم الطويل، وعصورهم المتلاحقة.
ملخص المقال
إن الأخلاق التي يُمكن أن يتفق عليها جميع الناس وتصلح لأن تُمثِّل قاعدةً ينطلق منها التعاون الإنساني- تنحصر في ثلاثة أخلاق أساسيَّة: الصدق، والأمانة،
ما الأخلاق الأساسيَّة؟
شهد التاريخ الإنساني اختلافًا واسعًا في المنظومات الأخلاقيَّة للشعوب، ثُمَّ أتى عصر الكتابة والتدوين والتفكير والفلسفة، فتوسَّع في نقاش هذه المنظومات الأخلاقيَّة، وصنع جدالًا لا يبدو أنَّه سينتهي حول الأخلاق، كان من ضمن عناصره الحيَّة والثريَّة والمـُحْتَمِلة للجدل فكرة "ترتيب الأخلاق"، أو وضع الهيكل للمنظومة الأخلاقيَّة البشريَّة؛ أيُّ الأخلاق يستحقُّ أن يكون في موقع الصدارة، وأيُّها يُمكن أن يحتلَّ المواقع الخلفية؟ وأيُّ الأخلاق يسع الإنسانيَّة أن ترفضه، أو حتى تهمله وتتخلَّى عنه؟ ثُمَّ أيُّها الذي يُمَثِّل غيابه تهديدًا خطرًا ومؤثِّرًا؟ وما الذي جعل البشر يختلفون في منظوماتهم الأخلاقيَّة؛ فلا يتَّفِقُون على منظومةٍ واحدة؟ وهل ثَمَّة تفسير أخلاقي -أي من زاوية المنظور الأخلاقي- يستطيع أن يقول: لماذا بقي بعض الناس آلاف السنين في الشكل البدائي لا يكادون يتطوَّرون؟ ولماذا استطاع غيرهم أن يتطوَّر -وبسرعة أحيانًا- لكي يُقيم حضارات واسعة وعريقة؟ ثُمَّ هل ثَمَّة تفسير أخلاقي يُفَسِّر سقوط الحضارات الكبرى وانهيارها؟
وما زالت جوانب البحوث تتَّسع ويُؤخذ منها ويُرَدُّ، وما زال العلماء والفلاسفة والمؤرخون يُحاول كلٌّ منهم أن يُدلي بدلوه في صناعة تفسير وصياغة إجابات لهذه الأسئلة، ومن منطلق قراءتي للتاريخ ومسار الحضارات واستنادًا إلى القرآن الكريم والسُّنَّة النبوية أستطيع أن أُمَيِّزَ بين نوعين، أو بالأحرى مستويين من الأخلاق.
المستوى الأوَّل: هي الأخلاق التي لا بُدَّ منها لحياة مجموعةٍ من البشر، التي إذا غابت تصير هذه المجموعة في حالةٍ من القلق والاضطراب يُؤَشِّر إلى الفناء. والمستوى الثاني: هي الأخلاق التي يُمَثِّل وجودها إضافةً إنسانيَّةً مهمَّة في حياة الجماعة البشريَّة، بينما يُؤَثِّر غيابها بالسلب على جمال الحياة ومستواها الإنساني، ولكنَّه غيابٌ لا يُؤَدِّي إلى المراحل المتأخِّرة من القلق والاضطراب؛ ومن ثَمَّ الفناء.
وعلى هذا فنحن أمام تقسيمٍ كبيرٍ للمنظومة الأخلاقيَّة البشريَّة؛ تقسيم يَخُطُّ حدَّ الضرورة ثُمَّ يخطُّ حدَّ الجمال والكمال، ونستطيع أن نقول باطمئنان: إنَّ المجتمعات البشريَّة القائمة التي قامت ذات يومٍ على هذه الأرض استطاعت الاحتفاظ لنفسها بمجموعةٍ من الأخلاق التي مَثَّلَت الحدَّ الأدنى للوجود البشري، ثُمَّ قامت الحضارات بالبناء على هذا الحدِّ الأدنى لتصل إلى الجمال والكمال، ولكن تظلُّ المحاولة بحاجةٍ إلى مزيدٍ من التحديد والتوضيح، فما تلك الأخلاق التي تُمَثِّل الحدَّ الأدنى للوجود البشري؟ ومن ثَمَّ تمثِّل الحدَّ الأدنى من مستوى التعاون بين الناس، وهي بالتالي تُمثِّل الإطار الذي نتخوَّف من انتهاكه أو الخروج عليه.
ومن واقع ما خَلُصت إليه عبر القراءة في التاريخ والواقع، فإنِّي أرى أنَّ هذه الأخلاق التي يُمكن أن يتَّفق عليها جميع الناس وتصلح لأن تُمثِّل قاعدةً ينطلق منها التعاون الإنساني- تنحصر في ثلاثة أخلاق أساسيَّة: الصدق، والأمانة، والعدل. إنَّني أجد في جميع الثقافات البشريَّة بما فيها الأديان السماويَّة، والفلسفات القديمة، حتى ثقافات الشعوب التي عاشت في عزلة حضاريَّة ما يُؤَسِّس لهذه الأخلاق الأساسيَّة.
الصدق:
لقد دعا الإسلام إلى تحرِّي الصدق في الأقوال والأفعال؛ فآيات القرآن الكريم وأقوال النبيِّ محمَّدٍ صلى الله عليه وسلم متكاثرةٌ في هذا الجانب؛ والبداية من الكذب في أمور الدين الذي سُمِّيَ كذبًا على الله، قال سبحانه وتعالى: (إِنَّمَا يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ اللهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْكَاذِبُونَ) [النحل: 105]. ثُمَّ بالكذب على الناس (وَلَا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلاَلٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ لاَ يُفْلِحُونَ) [النحل: 116]. وقال سبحانه وتعالى يصف الذين احترفوا الكذب واعتادوه، حتى إنَّهم يُقسمون بالأيمان ليُصَدِّقهم الناس: (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ تَوَلَّوْا قَوْمًا غَضِبَ اللهُ عَلَيْهِمْ مَا هُمْ مِنْكُمْ وَلاَ مِنْهُمْ وَيَحْلِفُونَ عَلَى الْكَذِبِ وَهُمْ يَعْلَمُونَ * أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا إِنَّهُمْ سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ * اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ * لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلاَ أَوْلاَدُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ * يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعًا فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَمَا يَحْلِفُونَ لَكُمْ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلَى شَيْءٍ أَلاَ إِنَّهُمْ هُمُ الْكَاذِبُونَ) [المجادلة: 14-18].
وفي ثناء الله على الصدق يقول سبحانه وتعالى: (وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ) [الزمر: 33]. ومنزلة الصادقين في الإسلام هي المنزلة الثانية في التعظيم بعد منزلة الأنبياء مباشرة: (وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ) [النساء: 69].
بل لقد حارب الإسلام الكلام بناء على الظنِّ؛ حيث قال النبيِّ صلى الله عليه وسلم: "إِيَّاكُمْ وَالظَّنَّ! فَإِنَّ الظَّنَّ أَكْذَبُ الْحَدِيثِ"[1]. وكان هذا صدى لما في القرآن الكريم: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ) [الحجرات: 12]. ولهذا حثَّ القرآن الكريم على محاربة الإشاعات ومطلقيها بالتثبُّت من صحَّتِها ودقَّتها، قال سبحانه وتعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ) [الحجرات: 6].
بل حتى في أثناء اندلاع الحرب لو عَنَّت بادرة أو إشارة تُفيد بأنَّ الحرب في غير وجهها، وأنَّ ثَمَّة خطأٌ ما في المعلومات، فيجب التوقُّف والتبيُّن، قال سبحانه وتعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ فَتَبَيَّنُوا وَلاَ تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلاَمَ لَسْتَ مُؤْمِنًا تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَعِنْدَ اللَّهِ مَغَانِمُ كَثِيرَةٌ كَذَلِكَ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلُ فَمَنَّ اللهُ عَلَيْكُمْ فَتَبَيَّنُوا إِنَّ اللهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا) [النساء: 94].
وورد -أيضًا- في وصايا النبيِّ محمَّد صلى الله عليه وسلم: "عَلَيْكُمْ بِالصِّدْقِ! عَلَيْكُمْ بِالصِّدْقِ؛ فَإِنَّ الصِّدْقَ يَهْدِي إِلَى الْبِرِّ، وَإِنَّ الْبِرَّ يَهْدِي إِلَى الْجَنَّةِ، وَمَا يَزَالُ الرَّجُلُ يَصْدُقُ وَيَتَحَرَّى الصِّدْقَ حَتَّى يُكْتَبَ عِنْدَ اللهِ صِدِّيقًا، وَإِيَّاكُمْ وَالْكَذِبَ؛ فَإِنَّ الْكَذِبَ يَهْدِي إِلَى الْفُجُورِ، وَإِنَّ الْفُجُورَ يَهْدِي إِلَى النَّارِ، وَمَا يَزَالُ الرَّجُلُ يَكْذِبُ وَيَتَحَرَّى الْكَذِبَ حَتَّى يُكْتَبَ عِنْدَ اللهِ كَذَّابًا"[2].
ولقد طلب محمَّدٌ صلى الله عليه وسلم من أتباعه ستَّة أمور؛ إذا فعلوها فإنَّها تضمن لهم الجنَّة، وكان أوَّلها "اصْدُقُوا إِذَا حَدَّثْتُمْ"[3].
وفي الكتاب المقدَّس بعهديه القديم والجديد تكرَّرت الوصايا بقول الصدق والتحذير من الكذب؛ ففي سفر اللاويين وردت الوصيَّة: "لا تكذبوا"[4]. وفيه -أيضًا- النهي عن القسم بالله كذبًا: "ولا تحلفوا باسمي للكذب فتدنِّس اسم إلهك"[5].
كما جاء في رسالة القديس بولس إلى أهل كولوسي: "لا تكذبوا بعضكم على بعض"[6]. وفي سفر الرؤية أُعلن بوضوح: "الكذابون لا يرثون ملكوت السموات"[7].
ومن قديمٍ نجد الصدق والكذب حاضرًا في الوصايا الأخلاقيَّة الخمسة التي وضعها بوذا في الهند القديمة؛ حيث تقول: "لا يقولنَّ أحدٌ كذبًا". وبعد بوذا بحقبةٍ من الزمان روى المؤرِّخ اليوناني الذي سجَّل حملات الإسكندر الأكبر أنَّ الهنود صادقون إلى أبعد الحدود[8].
وفي فلسفة حكيم الصين الأشهر كونفوشيوس نجد الصدق -حتى في حالة الغضب- من بين الشروط التي وضعها لكي يكون الإنسان نبيلًا[9]، بل لقد قَدَّم الصدق عن الحاجة إلى الطعام والشراب، وعن الحاجة إلى العتاد الحربي؛ فحين كان يصف الشروط التي يجب أن تتوفَّر في الحكومة الصالحة لتقود الشعوب وضع ثلاثة شروط؛ قال: "(لا بُدَّ للحكومة) من أن تُحقق أمورًا ثلاثة، أن يكون لدى الناس كفايتهم من الطعام، وكفايتهم من العتاد الحربي، ومن الثقة بحكَّامهم". فقال تزه - كونج: "فإذا لم يكن بُدٌّ من الاستغناء عن أحد هذه الشروط، فأيُّ هذه الثلاثة يجب أن تتخلَّى عنه أوَّلًا؟" فأجاب المعلم: "العتاد الحربي". وسأله تزه - كونج مرَّةً أخرى: "وإذا كان لا بُدَّ من الاستغناء عن أحد الشرطين الباقيين فأيُّهما يجب أن تتخلَّى عنه؟ أجاب المعلم: "فلنتخلَّ عن الطعام؛ ذلك أنَّ الموت كان منذ الأزل قضاءً محتومًا على البشر، أمَّا إذا لم يكن للناس ثقةٌ (بحكَّامهم) فلا بقاء (للدولة)"[10].
ويُجْمل الدكتور زكريا إبراهيم اتفاق الإنسانيَّة على ضرورة الصدق فيقول: "ربَّما اختلفت الشرائع الأخلاقيَّة -أيضًا- في تحديد "الحالات" التي يكون فيها الكذب أهون الشَّرَّيْنِ، ولكنَّها تُجْمِع -بلا استثناء- على اعتبار "قول الصدق" في الحالات العادية عملًا أخلاقيًّا صائبًا"[11].
المصدر:
كتاب المشترك الإنساني.. نظرية جديدة للتقارب بين الشعوب، للدكتور راغب السرجاني.
[1] البخاري: كتاب الأدب، باب ما ينهى عن التحاسد والتدابر (5717) عن أبي هريرة، ومسلم: كتاب البر والصلة والآداب، باب تحريم الظن والتجسس والتنافس والتناجش ونحوها (2563).
[2] البخاري: كتاب الأدب، باب قول الله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ) (5743)، ومسلم: كتاب البر والصلة والآداب، باب قبح الكذب وحسن الصدق وفضله (2607) عن عبد الله بن مسعود، واللفظ له.
[3] أحمد في مسنده (22809) عن عبادة بن الصامت، وقال شعيب الأرناءوط: حسن لغيره وهذا إسناد رجاله ثقات. وابن حبان (271)، والحاكم (8066)، وقال: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه. وقال الألباني: حسن. انظر: صحيح الجامع (1018).
[4] سفر اللاويين 19/11.
[5] سفر اللاويين 19/12.
[6] رسالة بولس إلى أهل كولوسي 3/9.
[7] سفر الرؤية 21/27، 22/15.
[8] ول ديورانت: قصة الحضارة 3/27، 77.
[9] هالة أبو الفتوح: فلسفة الأخلاق والسياسة.. المدينة الفاضلة عند كونفوشيوس، ص102.
[10] ول ديورانت: قصة الحضارة 4/60، 61.
[11] زكريا إبراهيم: المشكلة الخلقية، ص62.
التعليقات
إرسال تعليقك