التاريخ الإسلامي
دون تشويه أو تزوير
التاريخ الإسلامي يمتد منذ بداية الدعوة الإسلامية بعد نزول الوحي على رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم تأسيس الدولة الإسلامية بالمدينة المنورة وحكم الخلفاء الراشدين، مرورًا بالدولة الأموية فالدولة العباسية بما تضمنته من إمارات ودول مثل السلاجقة والغزنوية في وسط آسيا والعراق وفي المغرب الأدارسة والمرابطين ثم الموحدين وأخيرًا في مصر الفاطميين والأيوبيين والمماليك ثم سيطرة الدولة العثمانية التي تعتبر آخر خلافة إسلامية على امتداد رقعة جغرافية واسعة، وهذه البوابة تعنى بتوثيق التاريخ من مصادره الصحيحة، بمنهجية علمية، وعرضه في صورة معاصرة دون تشويه أو تزوير، وتحليل أحداثه وربطها بالواقع، واستخراج السنن التي تسهم في بناء المستقبل.
ملخص المقال
المظفر بن الأفطس، مقال بقلم د. راغب السرجاني، يتناول حياة المظفر بن الأفطس ملك بطليوس، ويبان شجاعته وأدبه بين ملوك الطوائف في الأندلس
المظفر بن الأفطس .. الملك الشجاع
المظفر سيف الدولة أبو بكر محمد بن عبد الله بن مسلمة المعروف بابن الأفطس، خلف والده بعد وفاته سنة 437هـ، وكان المظفَّر مثل أبيه بعيد النظر والسياسة، فعمل على توطيد مُلْكه في بَطَلْيُوس وما حولها، وإقرار النظام في أنحاء المملكة؛ ليتسنَّى له مراقبة الأحداث الخارجية؛ سواء ما يُخَبِّؤُه القدر له من ملوك الطوائف، أو ما يُدَبِّرُه النصارى له في الشمال، واستطاع بحنكته وشجاعته أن يُقيم ملكًا ضاهى فيه مُلْك بني عباد في إِشْبِيلِيَة، ومُلْك بني ذي النون في طُلَيْطِلَة، ولم يكن ذلك إلا بدماء جُنده التي أُهدرت في ساحات الحرب بينه وبين ابن عباد، وخاصة في المعارك العنيفة بينهما حول لَبْلَة ويَابرَة الواقعتين بين مملكة إِشْبِيلِيَة وبَطَلْيُوس، وكانت المعارك بينهما شنيعة، كما كانت سجالاً بين الطرفين، وكاد كل منهما يُفني الآخر، لولا تدخُّل الوزير أبي الحزم جهور وابنه أبي الو ليد بن جهور صاحب قُرْطُبَة على نحو ما سنفصِّله إن شاء الله[1].
وما كان المظفر لينتهي - ولو إلى حين - من خصمه العنيد المعتضد بن عباد حتى وقع عرضة لهجمات المأمون بن ذي النون صاحب طُلَيْطِلَة ودارت بينهما معارك طاحنة[2].
لم يكن النصارى في الشمال لِتغيب عنهم تلك الأحداث المؤسفة في بلاد المسلمين؛ لأنهم يتحيَّنون الفرصة بين الحين والآخر للقضاء على الإسلام في الأندلس، فما أن استتبَّ الأمر لفرناندو الأول بن سانشو ملك قشتالة وليون، حتى هاجمت قوَّاته المنطقة الشمالية والغربية لمملكة بَطَلْيُوس -أي: شمال البرتغال حاليًا- ودارت بينهما حروب كانت الغلبة فيها للنصارى، وضاعت الثغور الغربية في أيدي فرناندو، ولعلَّ أعظمها وأفدحها سقوط قُلُمْرِيَة (Coimbra) سنة (456هـ = 1064م)، وإجبار ابن الأفطس على دفع الجزية للنصارى[3] على نحو ما سنفصِّله ضمن حلقات تطوُّر المشهد الصليبي في عهد ملوك الطوائف.
وفاة المظفر بن الأفطس
وهكذا ظلَّ المظفر بن الأفطس يتقلَّب من حال إلى حال، لا يكاد يُغمض جفنيه عن حرب في الجنوب أو الشمال أو الشرق أو الغرب، وظلَّ كذلك حتى وافته المنية سنة (460هـ=1067م)، وخَلَفه ابنه يحيى على بَطَلْيُوس وتلقَّب بالمنصور[4].
المظفر بن الأفطس .. أديب الملوك
وقبل أن يتطرَّق بنا الحديث عن فترة المنصور يحيى وأخيه المتوكل عمر، يجدر بنا أن نذكر جانبًا من الجوانب المضيئة في حياة المظفر -رحمه الله، وهو الجانب الفكري والنشاط العلمي الذي خلفه في بَطَلْيُوس.
فمع شدَّة المظفر وبأسه واستحكام قوته في الحروب والنزاعات، إلا أنه كان أديب ملوك عصره، شغوفًا بالعلم والثقافة ومجالسة العلماء، وشراء الكتب وجمعها، حتى أصبح –رحمه الله-حكاية زمانه في العلم، كما كان –رحمه الله- يُحضر العلماء للمذاكرة فيُفيد ويستفيد[5]، وله التصنيف الرائق والتأليف الفائق، المترجم بـ(التذكرة) والمشتهر اسمه بـ(كتاب المظفر أو المظفري)، وهو في مائة مجلد، وقيل: في خمسين مجلد. وقيل: في عشرة أجزاء. يشتمل على علوم وفنون من مغازٍ وسِيَرٍ، ومَثَلٍ وخَبَرٍ، وجميع ما يختصُّ به علم الأدب، فكان موسوعة علمية وتاريخية وأدبية عظيمة؛ جمعت بين الآداب المتخيَّرة، والطرائف المستملحة، والنكت البديعة، والغرائب الملوكية واللغات الغربية، وقد ألف المظفر هذه الموسوعة بنفسه، ولم يستعن فيه بأحد من العلماء إلا بكاتبه أبي عثمان سعيد بن خيرة[6].
فأيُّ علم وثقافة! وأيُّ همَّة وعزيمة امتلكها المظفر بن الأفطس! وأين وقت الفراغ الذي كفله لنفسه ليكتب هذا السفر العظيم، وهذا ما حدا بابن حزم الأندلسي أن يفتخر به على ملوك الأندلس جميعًا، ويجعله فضيلة من فضائل الأندلس على مرِّ التاريخ، بقوله: وهل لكم ملك أَلَّف في فنون الأدب كتابًا في نحو مائة مجلدة مثل المظفر بن الأفطس ملك بَطَلْيُوس، ولم تشغله الحروب ولا المملكة عن همَّة الأدب[7].
ومن شعره: [الوافر]
أَنِفْتُ مِنَ الْمُدَامِ[8] لأَنَّ عَقْلِي *** أَعَزُّ عَلَيَّ مِنْ أُنْسِ الْمُدَامِ
وَلَمْ أَرْتَحْ إِلَى رَوْضٍ وَزَهْرٍ *** وَلَكِنْ لِلْحَمَائِلِ وَالحُسَامِ
إِذَا لَمْ أَمْلِكِ الشَّهَوَاتِ قَهْرًا *** فَلَمْ أَبْغِي الشُّفُوفَ عَلَى الأَنَامِ
وكان يقول: مَنْ لم يكن شعره مثل شعر المتنبي والمعري فليسكت[9].
[4] ابن خلدون: تاريخ ابن خلدون 4/160، وابن الأبار: الحلة السيراء 2/97، وذكر الدكتور حسين مؤنس في تحقيقه للحلة السيراء أن المظفر بن الأفطس توفي سنة 456هـ=1063م، وأيَّد ذلك في حاشية 2/97، في ذِكْر تسلسله لحكام بني
التعليقات
إرسال تعليقك